أي لفي عداد الكاملين في الصلاح من التعميم بعد التخصيص ، بأنه لما عدد ما أنعم به عليه من النعم الدينية والدنيوية قال سبحانه : وجمعنا له مع ما ذكر خير الدارين (وَلُوطاً) عطف على إبراهيم أو على نوحا والكلام في قوله تعالى : (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) كالذي في القصة السابقة.
(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الفعلة البالغة في القبح ، وقرأ الجمهور «أإنّكم» على الاستفهام الإنكاري: (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) استئناف مقرر لكمال قبحها ، فإن إجماع جميع أفراد العالمين على التحاشي عنها ليس إلا لكونها مما تشمئز منه الطباع السليمة وتنفر منه النفوس الكريمة ، وجوز أبو حيان كون الجملة حالا من ضمير تأتون ، كأنه قيل : إنكم لتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) أي تنكحونهم (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي وتقطعون الطريق بسبب تكليف الغرباء والمارة تلك الفعلة القبيحة وإتيانهم كرها أو وتقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث ، وقيل : تقطعون الطريق بالقتل وأخذ المال ، وقيل : تقطعونه بقبح الأحدوثة (وَتَأْتُونَ) أي تفعلون (فِي نادِيكُمُ) أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه ، وهو اسم جنس إذ أنديتهم في مجالسهم كثيرة ، ولا يسمى ناديا إلا إذا كان فيه أهله فإذا ناموا عنه لم يطلق عليه ناد (الْمُنْكَرَ) أخرج أحمد والترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت : «سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قول الله تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) فقال : كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم ، وعن مجاهد ومنصور والقاسم بن محمد وقتادة وابن زيد هو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا ، وعن مجاهد أيضا هو لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والخذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم ، وعن ابن عباس هو تضارطهم وتصافعهم فيها ، وفي رواية أخرى عنه هو الخذف بالحصى والرمي وبالبنادق والفرقعة ومضغ العلك والسواك بين الناس وحل الإزار والسباب والفحش في المزاح ولم يأت في قصة لوط عليهالسلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى كما جاء في قصة إبراهيم وكذا في قصة شعيب الآتية لأن لوطا كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وقد سبقه إلى الدعاء لعبادة الله تعالى وتوحيده واشتهر أمره عند الخلق فذكر لوط عليهالسلام ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها ، وأما إبراهيم وشعيب عليهماالسلام فجاءا بعد انقراض من كان يعبد الله عزوجل ويدعو إليه سبحانه فلذلك دعا كل منهما قومه إلى عبادته تعالى كذا في البحر.
(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فيما تعدنا من نزول العذاب على ما في الكشاف وغيره ، وهذا ظاهر في أنه عليهالسلام كان أوعدهم بالعذاب ، وقيل : أي في دعوى استحقاقنا العذاب على ما نحن عليه المفهومة من التوبيخ المعلوم من الاستفهام الإنكاري ، وقيل : أي في دعوى استقباح ذلك الناطق بها كلامك وهذا الجواب صدر عنهم في المرة الأولى من مرات مواعظ لوط عليهالسلام ، وما في سورة الأعراف المذكور في قوله تعالى : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [الأعراف : ٨٢] الآية وما في سورة النمل المذكور في قوله تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [النمل : ٥٦] الآية فقد صدر عنهم بعد هذه المرة فلا منافاة بين الحصر هنا والحصر هناك ، قاله أبو حيان وتبعه أبو السعود. وتعقب بأن هذا التعيين يحتاج إلى توقيف. وأجيب بأن مضموني الجوابين يشعران بالتقدم والتأخر ، وذلك أن (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) من باب التكذيب والسخرية وهو أوفق بأوائل المواعظ والتوبيخات و (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) ونحوه من باب التعذيب والانتقام ، وهو أنسب بأن يكون بعد تكرر الوعظ والتوبيخ الموجب لضجرهم ومزيد تألمهم مع قدرتهم على التشفي ، وهذا القدر يكفي لدعوى التقدم والتأخر ، وقيل