في دفع المنافاة بين الحصرين : إن ما هنا جواب قومه عليهالسلام له إذ نصحهم ، وما هناك جواب بعضهم لبعض إذ تشاوروا في أمره ، وقيل : إن أحد الجوابين صدر عن كبار قومه وأمرائهم والآخر صدر عن غيرهم ، وظاهر صنيع بعض الأجلة يقتضي اختيار أن يكون كل من الحصرين بالإضافة إلى الجواب الذي يرجوه عليهالسلام في متابعته فتأمل.
(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) أي بإنزال العذاب الموعود (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) بابتداع الفاحشة وسنها فيما بعدهم والإصرار عليها واستعجال العذاب بطريق السخرية ، وإنما وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) أي البشارة بالولد والنافلة (قالُوا) أي لإبراهيم عليهالسلام في تضاعيف الكلام (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي قرية سذوم وهي أكبر قرى قوم لوط وفيها نشأت الفاحشة أولا على ما قيل ، ولذا خصت بالذكر ، وفي الإشارة بهذه إشارة إلى أنها كانت قريبة من محل إبراهيم عليهالسلام وإضافة (مُهْلِكُوا) إلى (أَهْلِ) لفظية لأن المعنى على الاستقبال ، وجوز كونها معنوية لتنزيل ذلك منزلة الماضي لقصد التحقيق والمبالغة (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) تعليل للإهلاك بإصرارهم على الظلم وتماديهم في فنون الفساد وأنواع المعاصي ، والتأكيد في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر وقال سبحانه : (إِنَّ أَهْلَها) دون إنهم مع أنه أظهر وأخصر تنصيصا على اتفاقهم على الفساد كما اختاره الخفاجي.
وقال بعض المدققين : إن ذلك للدلالة على أن منشأ فساد جبلتهم خبث طينتهم ، ففيه إشارة خفية إلى أن المراد من أهل القرية من نشأ فيها فلا يتناول لوطا عليهالسلام ، واعترض بأنه يبعد كل البعد خفاؤها لو كانت على إبراهيم عليهالسلام كما هو ظاهر قوله تعالى : (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) وقيل : يجوز أن يكون عليهالسلام علم ما أشاروا إليه من عدم تناول أهل القرية إياه لكنه أراد التنصيص على حاله ليطمئن قلبه لكمال شفقته عليه ، وقيل : أراد أن يعلم هل يبقى في القرية عند إهلاكهم أو يخرج منها ثم يهلكون ، وكأن في قوله : (إِنَّ فِيها) دون إن منهم إشارة إلى ذلك ، وأفهم كلام بعض المحققين أن قوله : (إِنَّ فِيها لُوطاً) اعتراض على الرسل عليهمالسلام بأن في القرية من لم يظلم بناء على أن المتبادر من إضافة الأهل إليها العموم ، وحمل الأهل على من سكن فيها وإن لم يكن تولده بها ، أو معارضة للموجب للهلاك وهو الظلم بالمانع وهو أن لوطا بين ظهرانيهم وهو لم يتصف بصفتهم ، وأن جواب الرسل المحكي بقوله تعالى : (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) تسليم لقوله عليهالسلام في لوط مع ادعاء مزيد العلم به باعتبار الكيفية وأنهم ما كانوا غافلين عنه ، وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله على الاعتراض ، أو بيان وقت إهلاكهم بوقت لا يكون لوط وأهله بين ظهرانيهم على المعارضة ، وفيه ما يدل على جواز تأخير البيان عن الخطاب في الجملة ، والذي يغلب على الظن أنهم أرادوا بأهل القرية من نشأ بها على ما هو المتعارف فلا يكون لوط عليهالسلام داخلا في الأهل ، ويؤيد ذلك تأييدا ما قول قومه (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) وفهم إبراهيم عليهالسلام ما أرادوه وعلم أن لوطا ليس من المهلكين إلا أنه خشي أن يكون هلاك قومه وهو بين ظهرانيهم في القرية فيوحشه ذلك ويفزعه.
ولعله عليهالسلام غلب على ظنه ذلك حيث لم يتعرضوا لإخراجه من قرية المهلكين مع علمهم بقرابته منه ومزيد شفقته عليه فقال : (إِنَّ فِيها لُوطاً) على سبيل التحزن والتفجع كما في قوله تعالى : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) [آل عمران : ٣٦] وجل قصده ان لا يكون فيها حين الإهلاك فأخبروه أولا بمزيد علمهم به وأفادوه ثانيا بما يسره ويسكن جأشه نظير ما في قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : ٣٦] وأكدوا الوعد بالتنجية إما للإشارة إلى مزيد اعتنائهم بشأنه وإما لتنزيلهم إبراهيم عليهالسلام منزلة من ينكر تنجيته لما شاهدوا منه في