وجوز أن يكون المعنى ذلك أي ما تلي من الآيات الكريمة بسب بيان أن الله هو الحق إلهيته فقط ولأجله لكونها ناطقة بحقية التوحيد ولأجل بيان بطلان إلهية ما يدعون من دونه لكونها شاهدة شهادة بينة لا ريب فيها ولأجل بيان أنه تعالى هو المرتفع على كل شيء المتسلط عليه فإن ما في تضاعيف تلك الآيات الكريمة مبين لاختصاص العلو والكبرياء به أي بيان وهو وجه لا تكلف فيه سوى اعتبار حذف مضاف كما لا يخفى وكأنه إنما قيل هنا : وأن ما يدعون من دونه الباطل بدون ضمير الفصل ، وفي سورة الحج وأن ما يدعون من دونه هو الباطل بتوسيط ضمير الفصل لما أن الحط على المشركين وآلهتهم في هذه السورة دون الحط عليهم في تلك السورة.
وقال النيسابوري في ذلك إن آية الحج وقعت بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين فناسب ذلك توسيط الضمير بخلاف ما هنا ويمكن أن يقال تقدم في تلك السورة ذكر الشيطان مرات فلهذا ذكرت تلك المؤكدات بخلاف هذه السورة فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان فيها نحو ذكره هناك ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر «تدعون» بتاء الخطاب (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) استشهاد آخر على باهر قدرته جلّ وعلا وغاية حكمته عزوجل وشمول إنعامه تبارك وتعالى ، والمراد بنعمة الله تعالى إحسانه سبحانه في تهيئة أسباب الجري من الريح وتسخيرها فالباء للتعدية كما في مررت بزيد أو سببية متعلقة بتجري.
وجوز أن يراد بنعمته تعالى ما أنعم جلّ شأنه به بما تحمله الفلك من الطعام والمتاع ونحوه فالباء للملابسة والمصاحبة متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الفلك أي تجري مصحوبة بنعمته تعالى ؛ وقرأ موسى بن الزبير «الفلك» بضم اللام ومثله معروف في فعل مضموم الفاء.
حكي عن عيسى بن عمر أنه قال : ما سمع فعل بضم الفاء وسكون العين إلّا وقد سمع فيه فعل بضم العين.
وفي الكشاف كل فعل يجوز فيه فعل كما يجوز في كل فعل فعل ، وجعل ضم العين للإتباع وإسكانها للتخفيف.
وقرأ الأعرج ، والأعمش ، وابن يعمر «بنعمات الله» بكسر النون وسكون العين جمعا بالألف والتاء وهو جمع نعمة بكسر فسكون ، ويجوز كما قال غير واحد في كل جمع مثله تسكين العين على الأصل وكسرها اتباعا للفاء وفتحها تخفيفا.
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) سالك القصد أي الطريق المستقيم لا يعدل عنه لغيره ، وأصله استقامة الطريق ثم أطلق عليه مبالغة ، والمراد بالطريق المستقيم التوحيد مجازا فكأنه قيل : فمنهم مقيم على التوحيد ، وقول الحسن : أي مؤمن يعرف حق الله تعالى في هذه النعمة يرجع إلى هذا ، وقيل : مقتصد من الاقتصاد بمعنى اتوسط والاعتدال.
والمراد حينئذ على ما قيل متوسط في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء موف بما عاهد عليه الله تعالى في البحر ، وتفسيره بموف بعهده مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويدخل في هذا البعض على هذا المعنى عكرمة بن أبي جهل فقد روى السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الناس أن يكفوا عن قتل أهلها إلّا أربعة نفر منهم قال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، وقيس بن ضبابة ، وعبد الله بن أبي سرح. فأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح عاصفة فقال أهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلّا الإخلاص ما ينجني في البر غيره. اللهم إن لك عليّ عهدا إن أنت عافيتي مما أنا فيه أن آتي محمّدا صلّى الله تعالى