إقبال خاص والتفات روحاني يحصل من الحضرة الشريفة النبوية إلى عالم الدنيا وتنزل إلى عالم البشرية حتى يحصل عند ذلك رد السلام ، وفيه توجيهات أخر مذكورة في محلها ، ثم إن تلك الحياة في القبر وإن كانت يترتب عليها بعض ما يترتب على الحياة في الدنيا المعروفة لنا من الصلاة والأذان والإقامة ورد السلام المسموع ونحو ذلك إلا أنها لا يترتب عليها كل ما يمكن أن يترتب على تلك الحياة المعروفة ولا يحس بها ولا يدركها كل أحد فلو فرض انكشاف قبر نبي من الأنبياء عليهمالسلام لا يرى الناس النبي فيه إلا كما يرون سائر الأموات الذين لم تأكل الأرض أجسادهم ، وربما يكشف الله تعالى على بعض عباده فيرى ما لا يرى الناس ، ولو لا هذا لأشكل الجمع بين الأخبار الناطقة بحياتهم في قبورهم ، وخبر أبي يعلى وغيره بسند صحيح كما قال الهيثمي مرفوعا إن موسى نقل يوسف من قبره بمصر ، ثم إني أقول بعد هذا كله إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلىاللهعليهوسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول ، وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حين توفي عليه الصلاة والسّلام إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية وفيهم أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية ولم يبلغنا أن أحدا منهم ادعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأخذ عنه ما أخذ ، وكذا لم يبلغنا أنه صلىاللهعليهوسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره ، وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور : ليتني كنت سألت رسول الله عليه الصلاة والسّلام عنه ، ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلىاللهعليهوسلم بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال ، وقد وقفت على اختلافهم في حكم الجد مع الأخوة فهل وقفت على أن أحدا منهم ظهر له الرسول صلىاللهعليهوسلم فأرشده إلى ما هو الحق فيه ، وقد بلغك ما عرا فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته صلىاللهعليهوسلم وما جرى لها في أمر فدك فهل بلغك أنه عليه الصلاة والسّلام ظهر لها كما يظهر للصوفية فبل لوعتها وهون حزنها وبين الحال لها وقد سمعت بذهاب عائشة رضي الله تعالى عنها إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل فهل سمعت تعرضه صلىاللهعليهوسلم لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة ، والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة والسّلام لأحد من أصحابه وأهل بيته وهم هم مع احتياجهم الشديد لذلك وظهوره عند باب مسجد قباء كما يحكيه بعض الشيعة افتراء محض وبهت بحت
وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام ، وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام ، ولا يحسن معنى أن أقول : كل ما يحكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة حاكيه وجلالة مدعيه ، وكذا لا يحسن مني أن أقول : إنهم إنما رأوا النبي صلىاللهعليهوسلم مناما فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة وقته يقظة فقالوا : رأينا يقظة لما فيه من البعد ولعل في كلامهم ما يأباه ، وغاية ما أقول : إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهمالسلام وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جدا وأنى يرى النجم تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد انتشر ضوء الشمس في البقاع فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه ، ويمكن أن يقال : إنه لم يقع لحكمة الابتلاء أو لخوف الفتنة أو لأن في القوم من هو كالمرآة له صلىاللهعليهوسلم أو ليهرع الناس إلى كتاب الله تعالى وسنّته صلىاللهعليهوسلم فيما يهمهم فيتسع باب الاجتهاد وتنتشر الشريعة وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد أو لنحو ذلك.
وربما يدعي أنه عليه الصلاة والسّلام ظهر ولكن كان متسترا في ظهوره كما روي أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى صورة رسول الله عليه الصلاة والسّلام ولم ير صورة نفسه فهذا كالظهور الذي يدعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرآة ، وليس من باب التخيل الذي قوي بالنظر إلى