رجوع الضمير للبحر الملح لانسياق الذهن إليه من قوله سبحانه : (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) بناء على أن المعروف استخراجها منه خاصة وأمر الفلك فيه أعظم من أمرها في البحر العذب ولذا اقتصر على رؤية الفلك فيه على الحال التي ذكر الله تعالى ، وأفرد ضمير الخطاب مع جمعه فيما سبق وما لحق لأن الخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط (مَواخِرَ) شواق للماء يجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة فالمخر الشق.
قال الراغب : يقال مخرت السفينة مخرا ومخورا إذا شقت الماء بجؤجئها ، وفي الكشاف يقال : مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب بتات مخر لأنها تمخر الهواء ، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره ، وقيل المخر صوت جرى الفلك وجاء في سورة : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) [النحل : ١٤] بتقديم (مَواخِرَ) وتأخير (فِيهِ) وعكس هاهنا فقيل في وجهه لأنه علق (فِيهِ) هنا بتري وثمت بمواخر ، ولا يحسم مادة السؤال.
والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذاك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤ ، النحل : ١٨] فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه (فِيهِ) إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك ، وكأن الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية (وَلِتَبْتَغُوا) بالواو ، ومخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله سبحانه : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي من فضل الله تعالى بالنقلة فيها وهو سبحانه وإن لم يجر له ذكر في الآية فقد جرى له تعالى ذكر فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه عز شأنه.
واللام متعلقة بمواخر ، وجوز تعلقها بمحذوف دل عليه الأفعال المذكورة كسخر البحرين وهيأهما أو فعل ذلك (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تعرفون حقوقه تعالى فتقومون بطاعته عزوجل وتوحيده سبحانه.
ولعل للتعليل على ما عليه جمع من الأجلة وقد قدمنا ذلك ، وقال كثير : هي للترجي ولما كان محالا عليه تعالى كان المراد اقتضاء ما ذكر من النعم للشكر حتى كأن كل أحد يترجاه من المنعم عليه بها فهو تمثيل يؤول إلى أمره تعالى بالشكر للمخاطبين (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بزيادة أحدهما ونقص الآخر بإضافة بعض أجزاء كل منهما إلى الآخر (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عطف على (يُولِجُ) واختلافهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد حينا فحينا وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه وإنما المتعدد والمتجدد آثاره ، وقد أشير إليه بقوله تعالى : (كُلٌ) من الشمس والقمر (يَجْرِي) أي بحسب حركته على المدارات اليومية المتعددة حسب تعدد أيام السنة أو بحسب حركتيه الخاصة وهي من المغرب إلى المشرق والقسرية التي هي من المشرق إلى المغرب جريانا مستمرا (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) قدره الله تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة كما روي عن الحسن.
وقيل جريانهما عبارة عن حركتيهما الخاصتين بهما والأجل المسمى عبارة عن مجموع مدة دورتيهما أو منتهاها وهي للشمس سنة وللقمر شهر وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا (ذلِكُمُ) إشارة إلى فاعل الأفاعيل المذكورة ، وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمة وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم العظيم الشأن الذي أبدع هذه الصنائع البديعة (اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) وفيه من الدلالة على أن إبداعه تعالى لتلك البدائع مما يوجب ثبوت تلك الأخبار له تعالى ، وفي الكشاف ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و (رَبُّكُمْ) خبرا لو لا أن المعنى يأباه ا ه.
قال في الكشف : فيه نظر لأن الاسم الجليل جار مجرى العلم فلا يجوز أن يقع وصفا لاسم الإشارة البتة لا