فيعود إلى معنى الموصولة ولا يخفى ما فيه (أَفَلا يَشْكُرُونَ) إنكار واستقباح لعدم شكرهم للمنعم بالنعم المعدودة بالتوحيد والعبادة ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيرون هذه النعم أو أيتنعمون بها فلا يشكرون المنعم بها (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) استئناف مسوق لتنزيهه تعالى عما فعلوه من ترك شكره عزوجل واستعظام ما ذكر في حين الصلة من بدائع آثار قدرته وأسرار حكمته وروائع نعمائه الموجبة لشكره تعالى وتخصيص العبادة به سبحانه والتعجيب من إخلالهم بذلك والحال هذه ، وقد تقدم الكلام في (سُبْحانَ). وفي الإرشاد هنا أنه علم للتسبيح الذي هو التبعيد عن السوء اعتقادا وقولا أي اعتقاد البعد عنه والحكم به من سبح في الأرض والماء إذا بعد فيهما وأمعن وانتصابه على المصدرية أي أسبح سبحانه أي أنزهه عما لا يليق به عقدا وعملا تنزيها خاصا به حقيقا بشأنه عز شأنه ، وفيه مبالغة عن جهة الاشتقاق وجهة العدول إلى التفعيل وجهة العدول عن المصدر الدال على الجنس إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما العلم وجهة إقامته مقام المصدر مع الفعل ، وقيل : هو مصدر كغفران أريد به التنزه التام والتباعد الكلي عن السوء ففيه مبالغة من جهة اسناد التنزه إلى الذات المقدس فالمعنى تنزه بذاته عن كل ما لا يليق به تعالى تنزها خاصا به سبحانه ، فالجملة على هذا إخبار منه تعالى بتنزهه وبراءته عن كل ما لا يليق به مما فعلوه وما تركوه ؛ وعلى الأول حكم منه عزوجل بذلك وتلقين للمؤمنين أن يقولوه ويعتقدوا مضمونه ولا يخلوا به ولا يغفلوا به.
وقدر بعضهم الفعل الناصب أمرا أي سبحوا سبحان ، والمراد بالأزواج الأنواع والأصناف ، وقال الراغب : الأزواج جمع زوج ويقال لكل واحد من القرينين ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا وكل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب صورة ومادة وجوهر وعرض.
(مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) بيان للأزواج والمراد به كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي وخلق الأزواج من أنفسهم أي الذكر والأنثى (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي والأزواج مما لم يطلعهم الله تعالى ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته بخصوصياته وإنما أطلعهم سبحانه على ذلك بطريق الإجمال على منهاج (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل ـ ٨] لما نيط به وقوفهم على عظم قدرته وسعة ملكه وجلالة سلطانه عزوجل ، ولعله لما كان العلم من أخص صفات الربوبية لم يثبت على وجه الكمال والإحاطة لأحد سواه سبحانه ولو كان بطريق الفيض منه تبارك وتعالى على أن ظرف الممكن يضيق عن الإحاطة فما يجهله كل أحد أكثر مما يعلمه بكثير ، وقد يقال على بعض الاعتبارات : إن ما يعلمه كل أحد متناه وما يجهله غير متناه ولا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي أصلا فلا نسبة بين معلوم كل أحد ومجهوله ، وتأمل في هذا مع دعوى بعض الأكابر الوقوف على الأعيان الثابتة والاطلاع عليها وقل رب زدني علما (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) بيان لقدرته تعالى الباهرة في الزمان بعد ما بينها سبحانه في المكان ، و (آيَةٌ) خبر مقدم و (اللَّيْلُ) مبتدأ مؤخر وقوله تعالى (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) استئناف لبيان كونه آية ، وفي التركيب احتمالات أخر تعلم مما مر إلا أن الأرجح ما ذكر أي نكشف ونزيل الضوء من مكان الليل وموضع إلقاء ظله وظلمته وهو الهواء فالنهار عبارة عن الضوء إما على التجوز أو على حذف المضاف ، وقوله تعالى (مِنْهُ) على حذف مضاف وذلك لأن النهار والليل عبارتان عن زمان كون الشمس فوق الأفق وتحته ولا معنى لكشف أحدهما عن الآخر وأصل السلخ كشط الجلد عن نحو الشاة فاستعير لكشف الضوء عن مكان الليل وملقى ظلمته وظله استعارة تبعية مصرحة والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر فإنه يترتب ظهور اللحم على كشط الجلد وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل ، وجوز أن يكون في النهار استعارة مكنية وفي السلخ استعارة تخييلية والجمهور على ما ذكرنا ومن