لدوام المؤثر ، وإن قالوا بالثالث لزمهم القول باختلاف البروج في الطبيعة وإلا لا تحدت آثار الكوكب فيها وكلهم مجموعون على أن الفلك بسيط لا تركيب فيه ، والتزام التركيب من طبائع مختلفة ينافي قولهم بامتناع الانحلال. وزعم بعضهم أنها تفعل ما تفعل بالاختيار يستدعي إلغاء أمر الاتصال والانفصال والمقارنة والهبوط ونحو ذلك ؛ وكون ما ذكر شرطا للاختيار لا يخفى حاله ، والقول بأنها تستدعي من حيث طبيعة أشعتها التسخين والتبريد وهما يوجبان اختلاف أمزجة الأبدان واختلافها يوجب اختلاف أفعال النفس يرد عليه أنا نرى التسخين مثلا يقتضي حرارة وحدة في المزاج يفعل بها شخص غاية الخير والأفعال الحميدة وآخر غاية الشر والأفعال الخبيثة فلا بد لهذا الاختلاف من موجب غير التسخين ، وأيضا هم يقولون : جميع الحوادث الكونية مستند إلى الكواكب وحديث التسخين والتبريد واستلزامهما اختلاف أفعال النفس لا يتم به هذا الغرض ، وذكر الإمام الرازي عليه الرحمة أن المثبتين لعلم الأحكام والتأثيرات أي من الإسلاميين احتجوا من كتاب الله تعالى بآيات وهي أنواع ، الأول الآيات الدالة على تعظيم الكواكب فمنها قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) [التكوير : ١٥ ، ١٦] وأكثر المفسرين على أن المراد هو الكواكب التي تصير راجعة تارة ومستقيمة أخرى ، ومنها قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٥ ، ٧٦] وقد صرح سبحانه بتعظيم هذا القسم وذلك يدل على غاية جلالة مواقع النجوم ونهاية شرفها ، ومنها قوله تعالى (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ) [الطارق : ١ ، ٣] قال ابن عباس : الثاقب هو زحل لأنه يثقب بنوره سمك السماوات السبع ، ومنها قوله تعالى (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] فقد بيّن سبحانه إلهيته بكون هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره ، النوع الثاني ما يدل على وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كقوله سبحانه (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) [فصلت : ١٦] النوع الثالث الآيات الدالة على أن لها تأثيرا في هذا العالم كقوله تعالى (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) [النازعات : ٥] وقوله تعالى (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) [الذاريات : ٤] قال بعضهم المراد هذه الكواكب.
الرابع الآيات الدالة على أنه تعالى جعل حركات هذه الأجرام وخلقها على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم كقوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) [يونس : ٥] وقوله تعالى (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : ٦١].
النوع الخامس أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليهالسلام أنه تمسك بعلم النجوم فقال سبحانه (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [يونس : ٥] السادس أنه تعالى قال (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧] ولا يكون المراد كبر الجثة لأن كل أحد يعلمه فوجب أن يكون المراد كبر القدر والشرف ، وقال سبحانه (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : ١٩١] ولا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها ليستدل بتركيبها وتأليفها على وجود الصانع لأن هذا القدر حاصل في تركيب البعوضة ودلالة حصول الحياة في بنية الحيوانات على وجود الصانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلكية عليه لأن الحياة لا يقدر عليها غيره تعالى وجنس التركيب يقدر عليه الغير فلما خصها سبحانه وتعالى بهذا التشريف المستفاد من قوله تعالى (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) علمنا أن في تخليقها أسرارا عالية وحكما بالغة تتقاصر عقول البشر عن إدراكها ، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ