فالأجرام العلوية مشتركة في هذه الدلالة مختص كل منها بخاصة وشأن الكواكب في خواصها وتأثيراتها كشأن النباتات والمعدنيات والحيوانيات في خواصها وتأثيراتها ، فمنها ما خاصته في نفسه غير متوقفة على ضم شيء آخر إليه ، ومنها ما خاصته متوقفة على ضم شيء آخر ، ومنها ما إذا ضم إليه شيء أسقط خاصته ، وأبطل منفعته ومنها ما يعقل وجه تأثيره ومنها ما لا يعقل ، ومنها ما يؤثر في مكان دون مكان وزمان دون مكان ، ومنها ما يؤثر في جميع الأزمنة والأمكنة إلى غير ذلك من الأحوال ، وكونها زينة للسماء لا يستدعي نفي أن يكون فيها منفعة أخرى على حد ما في الأرض فقد قال سبحانه : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) [الكهف : ٧] مع اشتمال الأزهار وغيرها على ما تعلم وما لا تعلم من المنافع ، وكذلك كونها علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر وكونها رجوما للشياطين. ولا أقول ببساطة الأفلاك ولا ببساطة الكواكب ولا بانحصارها فيما يشاهد ببصر أو رصد ولا بذكورة بعض وأنوثة آخر إلى كثير مما يزعمه المنجمون ، وأقول : إن الله تعالى أودع في بعضها تأثيرا حسبما أودع في أزهار الأرض ونحوها وإنها لا تؤثر إلا بإذنه عزوجل كما هو مذهب السلف في سائر الأسباب العادية وإن شئت فقل كما قال الأشاعرة فيها ، وأنه لا يبعد أن يكون بعضها علامات لإحداثه تعالى أمورا لا بواسطتها في أحد العالمين العلوي والسفلي يعرفها من يوقفه الله تعالى عليها من ملائكته وخواص عباده ، وارتباط كثير من السفليات بالعلويات ، مما قال به الأكابر ولا ينكره إلا مكابر ، ولا أنسب أثرا من الآثار إلى كوكب بخصوصه على القطع لاحتمال شركة كوكب أو أمر آخر ، نعم الظاهر يقتضي كثرة مدخلية بعض الكواكب في بعض الآثار كالقمر في مد البحار وجزرها فإن منها ما يأخذ في الازدياد حين يفارق القمر الشمس إلى وقت الامتلاء ثم إنه يأخذ في الانتقاص ولا يزال نقصانه يستمر بحسب نقصان القمر إلى المحاق ومنها ما يحصل فيه المد في كل يوم وليلة مع طلوع القمر وغروبه كبحر فارس وبحر الهند وبحر الصين ، وكيفيته أنه إذا بلغ القمر مشرقا من مشارق البحر ابتدأ البحر بالمد ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وسط سماء ذلك الموضع فإذا زال عن مغرب ذلك الموضع ابتدأ المد من تحت الأرض ولا يزال زائدا إلى أن يصل القمر إلى وتد الأرض فحينئذ ينتهي المد منتهاه ثم يبتدئ الجزر ثانيا ويرجع الماء كما كان ، ومثل المد والجزر بحرانات الأمراض فإنها بحسب زيادة القمر ونقصانه على معنى كثرة مدخلية ذلك ظاهرا فيها إلى أمور كثيرة ، ولا أقول : إن لكوكب تأثيرا في السعادة والشقاوة ونحوهما ، ولا يبعد أن يكون كوكب أو كواكب باعتبار بعض الأحوال علامة لنحو ذلك يعرفها بعض الخواص ، ولا وثوق بما قاله الأحكاميون وكل ما يقولونه ظن وتخمين لا دليل لهم عليه وهم فيما أسسوا عليه أحكامهم متناقضون وفي المذاهب مختلفون فللبابليين مذهب وللفرس مذهب ولأهل الهند مذهب ولأهل الصين مذهب وقد رد بعضهم على بعض وشهد بعض على بعض بفساد أصولهم ومبنى أحكامهم فقد كان أوائلهم من الأقدمين وكبار رصادهم من عهد بطليموس وطيموحارس ومانالارس قد حكموا حكما في الكواكب واتفقوا على صحته وأقام الناس على تقليدهم وبناء الأمر على ما قالوه أكثر من سبعمائة سنة فجاء من بعدهم خالد بن عبد الملك المروزي. وحسن صاحب الزيج المأموني ومحمد بن الجهم ويحيى بن أبي منصور فامتحنوا ما قالوا فوجودهم غالطين وأجمعوا على غلطهم وسموا رصدهم الرصد الممتحن. ثم حدثت بعدهم بنحو ستين سنة طائفة أخرى زعيمهم أبو معشر محمد بن جعفر فرد عليهم وبين خطاهم كما ذكره أبو سعيد شاذان المنجم في كتاب أسرار النجوم له وفيه قلت لأبي معشر الذنب بارد يابس فلم قلتم إنه يدل على التأنيث؟ فقال : هكذا قالوا قلت : فقد قالوا إنه ليس بصادق اليبس لكنه بارد عفن ملتوى كل الأعراض الغائية توهم لا يكون شيء منها يقينيا وإنما يكون توهم أقوى من توهم.
ومن تأمل أحوال القوم علم أن ما معهم تفرس يصيبون معه ويخطئون ، ثم حدثت بعدهم طائفة أخرى بنحو