سادسا فيقال : هب أنا عرفنا تلك الامتزاجات الحاصلة في ذلك فلا ريب أنّه لا يمكننا معرفة الامتزاجات التي كانت حاصلة قبله مع أنا نعلم قطعا أن الأشكال السالفة ربما كانت عائقة ومانعة عن مقتضيات الأشكال الحاصلة في الحال ، ولا ريب أنّا نشاهد أشخاصا كثيرة من النبات والحيوان والإنسان تحدث مقارنة لطالع واحد مع أن كل واحد منها مخالف للآخر في أكثر الأمور ، وذلك أن الأحوال السابقة في حق كل واحد تكون مخالفة للأحوال السابقة في حق الآخر وذلك يدل على أنه لا اعتماد على مقتضى طالع الوقت بل لا بد من الإحاطة بالطوالع السالفة وذلك مما لا وقوف عليه فإنه ربما كانت تلك الطوالع دافعة مقتضيات هذا الطالع الحاضر ، وعلى هذا الوجه عول ابن سينا في كتابيه الشفاء والنجاة في إبطال هذا العلم ، الثاني أن تأثير الكواكب يختلف باختلاف أقدارها فما كان من القدر الأول أثر بوقوعه على الدرجة وإن لم تضبط الدقيقة ، وما كان من القدر الأخير لم يؤثر إلا بضبط الدقيقة ، ولا ريب بجهالة مقادير جميع الكواكب فكيف تضبط الآثار ، الثالث فساد أصولهم وتناقض آرائهم واختلافهم اختلافا عظيما من غير دليل ومتى تعارضت الأقوال وتعذر الترجيح فيما بينها لا يعول على شيء منها.
الرابع أن أرصادهم لا تنفك عن نوع خلل وهي مبنى أحكامهم ، وقد صنف أبو علي بن الهيثم رسالة بليغة في أقسام الخلل الواقع في آلات الرصد وبين أن ذلك ليس في وسع الإنسان دفعه وإزالته وإصابتهم في أوقات الخسوف والكسوف مع ذلك الخلل لا تستدعي إصابتهم في غيرها معه ، الخامس أنا نشاهد عالما كثيرا يقتلون في ساعة واحدة في حرب وخلقا كثيرا يغرقون في ساعة واحدة مع اختلاف طوالعهم واقتضائها أحوالا مختلفة عندكم وهذا يدل على عدم اعتبار ما اعتبرتموه أولا ، فإن قلتم : إن الطوالع قد يكون بعضها أقوى من بعض فلعل طالع الوقت أقوى من طالع الأصل فكان الحكم ، قلنا : هذا بعينه يبطل عليكم اعتبار طالع المولود فإن الطوالع بعده مختلفة كثيرة ولعل بعضها أقوى منه فلا يفيد اعتباره شيئا ، السادس أن العقل لا مساغ له في اقتضاء كوكب معين أو وضع معين تأثيرا خاصا والتجربة على قصورها معارضة بتجربة اقتضت خلافها إلى غير ذلك من من الوجوه ، وأبو البركات البغدادي وإن زيف ما هم عليه إلا أنه يقر بقبول بعض الأحكام فإنه قال بعد ذكر شيء من أقوالهم التي لا دليل لهم عليها : وهذه أقوال قالها قائل فقبلها قابل ونقلها ناقل فحسن بها ظن السامع واغتر بها من لا خبرة له ولا قدرة له على النظر ثم حكم بحسبها الحاكمون بجيد ورديء وسلب وإيجاب وسعد ونحوس فصادف بعضه موافقة الوجود فصدق فاغتر به المغترون ولم يلتفتوا إلى كذب فيه بل عذروه وقالوا : هو منجم ما هو نبي حتى يصدق في كل ما يقول واعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به ولو أحاط به لصدق في كل شيء ، ولعمر الله تعالى إنه لو أحاط به علما صادقا لصدق والشأن أن يحيط به على الحقيقة لا على أن يفرض فرضا ويتوهم وهما فينقله إلى الوجود ويثبته في الموجود وينسب إليه ويقيس عليه ، وبالذي يصح منه ويلتفت إليه العقلاء هي أشياء غير هذه الخرافات التي لا أصل لها مما حصل بتوقيف أو تجربة حقيقية كالقرانات والانتقالات والمقابلة وممر كوكب من المتحيرة تحت كوكب من الثابتة وما يعرض للمتحيرة من رجوع واستقامة ورجوع في شمال وانخفاض في جنوب وغير ذلك ، وكأني أريد أن أختصر الكلام هاهنا وأوافق إشارتك وأعمل بحساب اختيارك رسالة في ذلك أذكر ما قيل فيها من علم أحكام النجوم من أصول حقيقية أو مجازية أو وهمية أو غلطية وفروع نتائج أنتجت عن تلك الأصول وأذكر الجائز من ذلك والممتنع والقريب والبعيد فلا أرد علم الأحكام من كل وجه كما رده من جهله ولا أقبل فيه كل قول كما قبله من لم يعقله بل أوضح موضع القبول والرد وموضع التوقيف والتجويز والذي من المنجم والذي من التنجيم والذي منهما وأوضح لك أنه لو أمكن الإنسان أن يحيط بشكل كل ما في الفلك علما لأحاط بكل ما يحويه الفلك لأن منه مبادئ الأسباب لكنه لا يمكن ويبعد عن