الأقوال فقط بل عام لها وللأفعال أيضا من سجود الملائكة عليهمالسلام وإباء إبليس واستكباره حسبما ينطق به الوحي فالأولى اعتبار العموم في نفيه أيضا ، وقيل : إذ بدل اشتمال من (الملأ) أو ظرف لعلم وفيه بحث والاختصام فيما يشير إليه سبحانه بقوله عزوجل (إِذْ قالَ رَبُّكَ) إلخ ، والتعبير بيختصمون المضارع لأنه أمر غريب فأتى به لاستحضاره حكاية للحال ، وضمير الجمع للملإ. وحكى أبو حيان كونه لقريش واستبعده وكأن في (يَخْتَصِمُونَ) حينئذ التفاتا من الخطاب في (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) إلى الغيبة والاختصام في شأن رسالته صلىاللهعليهوسلم أو في شأن القرآن أو شأن المعاد وفيه عدول عن المأثور وارتكاب لما لا يكاد يفهم من الآية من غير داع إلى ذلك ومع هذا لا يقبله الذوق السليم ، وقوله تعالى : (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) اعتراض وسط بين إجمال اختصامهم وتفصيله تقريرا لثبوت علمه عليه الصلاة والسلام وتعيينا لسببه إلا أن بيان انتفائه فيما سبق لما كان منبئا عن ثبوته الآن ، ومن البين عدم ملابسته صلىاللهعليهوسلم بشيء من مبادئه المعهودة تعين أنه ليس إلا بطريق الوحي حتما فجعل ذلك أمرا مسلم الثبوت غنيا عن الإخبار به قصدا وجعل مصب الفائدة إخباره بما هو داع إلى الوحي ومصحح له ، فالقائم مقام الفاعل ليوحى إما ضمير عائد إلى الحال المقدر كما أشير إليه سابقا أو ما يعمه وغيره ، فالمعنى ما يوحى إلي حال الملأ الأعلى أو ما يوحى إلى الذي يوحى من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني نذير مبين من جهته تعالى فإن كونه عليه الصلاة والسلام كذلك من دواعي الوحي إليه ومصححاته ، وجوز كون الضمير القائم مقام الفاعل عائدا إلى المصدر المفهوم من (يُوحى) أي ما يفعل الإيحاء إلى بحال الملأ الأعلى أو بشيء من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني إلخ.
وجوز أيضا كون الجار والمجرور نائب الفاعل و (أَنَّما) على تقدير اللام ، قال في الكشف : ومعنى الحصر أنه صلىاللهعليهوسلم لم يوح إليه لأمر إلا لأنه نذير مبين وأي مبين كقولك : لم تستقض يا فلان إلا لأنك عالم عامل مرشد. وجوز الزمخشري أن يكون بعد حذف اللام مقاما مقام الفاعل ، ومعنى الحصر أني لم أومر إلا بهذا الأمر وحده وليس إلى غير ذلك لأنه الأمر الذي يشتمل على كل الأوامر إما تضمنا وإما التزاما أو لم أومر إلا بإنذاركم لا بهدايتكم وصدكم عن العناد فإن ذلك ليس إليّ ، وما ذكر أولا أوفق بحال الاعتراض كما لا يخفى على من ليس أجنبيا عن إدراك اللطائف. وقرأ أبو جعفر إنما بالكسر على الحكاية أي ما يوحى إلي إلا هذه الجملة وإيحاؤها إليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يقولها وحاصل معنى الحصر قريب مما ذكر آنفا ، وجوز أن يراد لم أومر إلا بأن أقول لكم هذا القول دون أن أقول أعلم الغيب بدون وحي مثلا فتدبر ولا تغفل.
وقوله تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) إلخ شروع في تفصيل ما أجمل من الاختصام الذي هو ما جرى بينهم من التقاول فهو بدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) بدل كل من كل ، وجوز كونه بدل بعض ، وصح إسناد الاختصام إلى الملائكة مع أن التقاول كان بينهم وبين الله تعالى كما يدل عليه (إِذْ قالَ رَبُّكَ) إلخ لأن تكليمه تعالى إياهم كل بواسطة الملك فمعنى المقاولة بين الملأ الأعلى مقاولة ملك من الملائكة مع سائر الملائكة عليهمالسلام في شأن الاستخلاف ومع إبليس في شأن السجود ومع آدم في قوله : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [البقرة : ٣٣] ومعنى كون المقاولة بين الملائكة وآدم وإبليس وجودها فيما بينهم في الجملة ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الإسناد فالكل حقيقة لأن الملأ الأعلى شامل للملك المتوسط وهو المقاول بالحقيقة وهو عزوجل مقاول بالمجاز ، ولا تقل المخاصم ليكون الأمر بالعكس ، وما يقال : إن قوله تعالى : (إِذْ قالَ رَبُّكَ) يقتضي بأن يكون مقاولته تعالى إياهم بلا واسطة فهو ممنوع لأنه إبدال زمان قصة عن زمان التفاوض فيها ، والغرض أن تعلم القصة لا مطابقة كل جزء جزء لكل جزء جزء فذلك غير لازم ولا مراد ، ثم فيه فائدة جليلة وهي أن مقاولة الملك إياهم أو إياهما عن الله تعالى فهم مقاولوه