فيها في موضعين مثلا لفظان متحدان مآلا مختلفان لفظا رعاية للتفنن ، وقد يحمل الاختلاف على تعدد الصدور فيقال مثلا : إن اللعين أقسم مرة بالعزة فحكى ذلك في سورة (ص) بقوله تعالى : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ) وأخرى بإغواء الله تعالى الذي هو أثر من آثار قدرته وعزته عزوجل وحكم من أحكام سلطانه فحكى ذلك في سورة [الأعراف : ١٦] بقوله تعالى : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) وقد يحمل الاختلاف على اختلاف المقامات كترك الفاء من قوله (أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ومن قوله تعالى : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) في [الأعراف : ١٤ ، ١٥] مع ذكرها فيهما في (ص) والذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله الذي يفيده وأما كيفية إفادته له فليس مما يجب مراعاته عند النقل البتة بل قد تراعى وقد لا تراعى حسب اقتضاء المقام ، ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعى عند نقله كيفيات وخصوصيات لم يراعها المتكلم أصلا حيث إنّ مقام الحكاية اقتضتها وهي ملاك الأمر ولا يخل ذلك بكون المنقول أصل المعنى كما قد حققه صدر المفتين أبو السعود وأطال الكلام فيه فليراجع (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على القرآن كما روي عن ابن عباس أو على تبليغ ما يوحى إلي أو على الدعاء إلى الله تعالى على ما قيل (مِنْ أَجْرٍ) أي أجرا دنيويا جل أو قل (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدعيا ما ليس عندي حتى انتحل النبوة وأتقول القرآن فأمره صلىاللهعليهوسلم أن يقول لهم عن نفسه هذه المقالة ليس لإعلامهم بالمضمون بل للاستشهاد بما عرفوه منه عليه الصلاة والسلام وللتذكير بما علموه وفي ذلك ذم التكلف.
وأخرج ابن عدي عن أبي برزة قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : هم الرحماء بينهم قال : ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا : بلى قال : هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون» وعلامة المتكلف كما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن المنذر ثلاث أن ينازل من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم ، وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال : أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله تعالى أعلم قال الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ) أي ما هو أي القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ) جليل الشأن من الله تعالى. (لِلْعالَمِينَ) للثقلين كافة (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) أي ما أنبأ به من الوعد والوعيد وغيرهما أو خبره الذي يقال فيه في نفس الأمر وهو أنه الحق والصدق (بَعْدَ حِينٍ) قال ابن عباس وعكرمة وابن زيد : يعني يوم القيامة ، وقال قتادة : والفراء والزجاج : بعد الموت ، وكان الحسن يقول : يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين ، وفسر نبؤه بالوعد والوعيد الكائنين في الدنيا ، والمراد لتعلمن ذلك بتحققه إذا أخذتكم سيوف المسلمين وذلك يوم بدر وأشار إلى هذا السدي ، وأيا ما كان ففي الآية من التهديد ما لا يخفى.
هذا وممّا قاله بعض السّادة الصّوفيّة في بعض الآيات قالوا في قوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أنه ظاهر في أن الجماد والحيوان الذي هو عند أهل الحجاب غير ناطق حي دراك له علم بالله عزوجل ، ونقل الشعراني عن شيخه على الخواص قدسسره القول بتكليف البهائم من حيث لا يشعر المحجوبون ، وجوز أن يكون نذيرها من ذواتها وأن يكون خارجا عنها من جنسها ، وقال : ما سميت بهائم إلا لكون أمر كلامها وأحوالها قد أبهم على غالب الخلق لا لأن الأمر مبهم عليها نفسها. وحكي عنه أنه كان يعامل كل جماد في الوجود معاملة الحي ويقول : إنه يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان.
وقيل : في قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إشارة إلى أن النفوس مجبولة على الظلم وسائر الصفات الذميمة وإلى أن الذين تزكت أنفسهم قليل