فرطت في أمر الله ، والحسن : في طاعة الله ، وسعيد بن جبير : في حق الله بيان لحاصل المعنى ، وقيل : الجنب مجاز عن الذات كالجانب أو المجلس يستعمل مجازا لربه ، فيكون المعنى على ما فرطت في ذات الله. وضعف بأن الجنب لا يليق إطلاقه عليه تعالى ولو مجازا ، وركاكته ظاهرة أيضا ، وقيل : هو مجاز عن القرب أي على ما فرطت في قرب الله. وضعف بأنه محتاج إلى تجوز آخر ، ويرجع الأمر في الآخرة إلى طاعة الله تعالى ونحوها. وبالجملة لا يمكن إبقاء الكلام على حقيقته لتنزهه عزوجل من الجنب بالمعنى الحقيقي.
ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية ، ولا أعول على ما في المواقف ، وعلى فرض العد كلامهم فيها شهير وكلهم مجمعون على التنزيه وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وفي حرف عبد الله وحفصة «في ذكر الله» (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي المستهزئين بدين الله تعالى وأهله ، و (أَنْ) هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والجملة في محل النصب على الحال عند الزمخشري أي فرطت في حال سخريتي.
وقال في البحر : ويظهر أنها استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا لا حال ، والمقصود من ذلك الإخبار التحسر والتحزن (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي من الشرك والمعاصي.
وفسر غير واحد الهداية هنا بالإرشاد والدلالة الموصولة بناء على أنه الأنسب بالشرطية والمطابق للرد بقوله سبحانه : (بَلى) إلخ ، وفسرها أبو حيان بخلق الاهتداء. وأيا ما كان فالظاهر أن هذه المقالة في الآخرة.
(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) أي رجوعا إلى الحياة الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في العقيدة والعمل ، و (لَوْ) للتمني (فَأَكُونَ) منصوب في جوابها ، وجوز في البحر أن يكون منتصبا بالعطف على (كَرَّةً) إذ هو مصدر فيكون مثل قوله :
فما لك عنها غير ذكرى وحسرة |
|
وتسأل عن ركبانها أين يمموا |
وقول الآخر :
ولبس عباءة وتقر عيني |
|
أحب لي من لبس الشفوف |
ثم قال : والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني كانت أن واجبة الإضمار وكان الكون مترتبا على حصول المتمني لا متمنى ، وإذا كانت للعطف على (كَرَّةً) جاز إظهار أن وإضمارها وكان الكون متمنى.
وقوله تعالى : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) جواب من الله عزوجل لما تضمنه قول القائل (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) من نفي أن يكون الله تعالى هداه ورد عليه ، ولا يشترط في الجواب ببلى تقدم النفي صريحا وقد وقع في موقعه اللائق به لأنه لو قدم على القرينة الأخيرة أعني (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ) إلخ وأوقع بعده غير مفصول بينهما بها لم يحسن لتبتير النظم الجليل. فإن القرائن الثلاثة متناسبة متناسقة متلاصقة ، والتناسب بينهن أتم من التناسب بين القرينة الثانية وجوابها ، ولو أخرت القرينة الثانية وجعلت الثالثة ثانية لم يحسن أيضا لأن رعاية الترتيب المعنوي وهي أهم تفوت إذ ذاك ، وذلك لأن التحسر على التفريط عند تطاير الصحف على ما يدل عليه مواضع من القرآن العظيم ، والتعلل بعدم الهداية إنما يكون بعد مشاهدة حال المتقين واغتباطهم ، ولأنه للتسلي عن بعض التحسر أو من باب تمسك الغريق فهو لاحق وتمنى الرجوع بعد ذوق النار ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ) [الأنعام : ٢٧] وكذلك لو حمل الوقوف على الحبس على شفيرها أو مشاهدتها ، وكل بعد مشاهدة حال المتقين وما لقوا من خفة الحساب والتكريم في الموقف ، ولأن اللجأ إلى التمني بعد تحقق أن لا جدوى للتعليل.