مقام امتنان وهو مقتض للتعميم ، والظاهر ذاك ، وكون المقام مقام امتنان غير مسلم بل هو مقام استدلال كقوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧] كما يشعر به السياق ، ولا يأباه ذكر المنافع فإنه استطرادي (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي دلائله الدالة على كمال شئونه جل جلاله (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) أي فأي آية من تلك الآيات الباهرة (تُنْكِرُونَ) فإن كلا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترئ على إنكارها من له عقل في الجملة. فأين للاستفهام التوبيخي وهي منصوبة بتنكرون ، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل إنكارها وتنكير أي في مثل ما ذكر هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل ومنه قوله :
بأي كتاب أم بأية سنة |
|
ترى حبهم عارا علي وتحسب |
قال الزمخشري : لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه لأنه اسم استفهام عما هو مبهم مجهول عند السائل والتفرقة مخالفة لما ذكر لأنها تقتضي التمييز بين ما هو مؤنث ومذكر فيكون معلوما له (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي أقعدوا فلم يسيروا على أحد الرؤيين : (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المهلكة ، وقوله تعالى : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) إلخ استئناف نظير ما مر في نظيره أول السورة بل أكثر الكلام هناك جار هاهنا (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ما) الأولى نافية أو استفهامية في معنى النفي في محل نصب بأغنى ، والثانية موصولة في موضع رفع به أو مصدرية والمصدر الحاصل بالتأويل مرفوع به أيضا أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم الذي كسبوه أو كسبهم (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات أو الآيات الواضحات الشاملة لذلك (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ذكر فيه ستة أوجه. الأول أن المراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة فيما يتعلق بالمبدإ والمعاد وغيرهما أو عقائدهم المتعلقة بأحوال الآخرة كما هو ظاهر كلام الكشاف ، والتعبير عن ذلك بالعلم على زعمهم للتهكم كما في قوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [النمل : ٦٦]. والمعنى أنهم كانوا يفرحون بذلك ويستحقرون له علم الرسل عليهمالسلام ويدفعون به البينات. الثاني أن المراد به علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان على اختلاف أنواعه فكانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علم الأنبياء عليهمالسلام إلى ما عندهم من ذلك. وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه الصلاة والسلام ، وقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهذبون فلا حاجة لنا إلى من يهذبنا. والزمان متشابه فقد رأينا من ترك متابعة خاتم المرسلين صلىاللهعليهوسلم واستنكف عن الانتساب إلى شريعة أحد منهم فرحا بما لحس من فضلات الفلاسفة وقال : إن العلم هو ذاك دون ما جاء به الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين. الثالث أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضعوا موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم سمي ذلك الجهل علما لاغتباطهم به ووضعهم إياه مكان ما ينبغي لهم من الاغتباط بما جاءهم من العلم ، وفيه التهكم بفرط جهلهم والمبالغة في خلوهم من العلم ، وضمير (فَرِحُوا) و (عِنْدَهُمْ) على هذه الأوجه للكفرة المحدث عنهم.
الرابع أن يجعل ضمير (فَرِحُوا) للكفرة وضمير (عِنْدَهُمْ) للرسل عليهمالسلام ، والمراد بالعلم الحق الذي جاء المرسلون به أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به ، وخلاصته أنهم استهزءوا بالبينات وبما جاء به الرسل من علم الوحي ، ويؤيد هذا قوله تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).
الخامس أن يجعل الضمير أن للرسل عليهمالسلام ، والمعنى أن الرسل لما رأوا جهل الكفرة المتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم