وقعا موقع الحال أي طائعتين أو كارهتين ، وقوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) أي منقادين تمثيلا لكمال تأثرهما عن القدرة الربانية وحصولهما كما أمرا به وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة فإن الطوع منبئ عن ذلك والكره موهم لخلافه ، وقيل : (طائِعِينَ) بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب ولا وجه للتأنيث عند أخبارهم عن أنفسهم لكون التأنيث بحسب اللفظ فقط ، وقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) تفسيرا وتفصيلا لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مترتب على تكوينهما أي خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة في وقتين وضمير (هن) إما للسماء على المعنى لأنه بمعنى السماوات ولذا قيل : هو اسم جمع ـ فسبع ـ حال من الضمير وإما مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهو له وإن تأخر لفظا ورتبة لجوازه في التمييز نحو ربه رجلا وهو وجه عربي.
وقال أبو حيان : انتصب (سَبْعَ) على الحال وهو حال مقدرة ، وقال بعضهم : بدل من الضمير ، وقيل : مفعول به والتقدير قضى منهن سبع سماوات ، وقال الحوفي : على أنه مفعول ثان على تضمين القضاء معنى التصيير ولم يذكر مقدار زمن خلق الأرض وخلق ما فيها اكتفاء بذكره في بيان تقديرهما ، وقوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) عطفا على (قضاهن) أي خلق في كل منها ما استعدت له واقتضت الحكمة أن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما يقتضيه كلام السدي. وقتادة فالوحي عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كل منها أو امره وكلفهم ما يليق بهم من التكاليف كمل قيل : فالوحي بمعناه المشهور من بين معانيه ومطلق عن القيد المذكور أو مقيد به فيما أرى ، واحتمال التقييد والإطلاق جار في قوله تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي من الكواكب وهي فيها وإن تفاوتت في الارتفاع والانخفاض على ما يقتضيه الظاهر أو بعضها فيها وبعضها فيما فوقها لكنها لكونها كلها ترى متلألئة عليها صح كون تزيينها بها ، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية ، وأما قوله تعالى : (وَحِفْظاً) فهو مفعول مطلق لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى : (زَيَّنَّا) أي وحفظناها حفظا ، والضمير للسماء وحفظها إما من الآفات أو من الشياطين المسترقة للسمع وتقدم الكلام في ذلك وقيل الضمير للمصابيح وهو خلاف الظاهر ، وجوز كونه مفعولا لأجله على المعنى أي معطوفا على مفعول له يتضمنه الكلام السابق أي زينة وحفظا ، ولا يخفى أنه تكلف بعيد لا ينبغي القول به مع ظهور الأول وسهولته كما أشار إليه في البحر.
وجعل قوله تعالى : (ذلِكَ) إشارة إلى جميع الذي ذكر بتفاصيله أي ذلك المذكور (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي البالغ في القدرة والبالغ في العلم ، ثم قال صاحب الإرشاد بعد ما سمعت مما حكي عنه : فعلى هذا لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير أي تقدير إيجاد الأرض وما فيها وإيجاد السماء وأما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة فهي تدل على تقدم خلق الأرض وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير ، ولا يخفى عليك أن حمل تلك الأفعال على ما حملها عليه خلاف الظاهر كما هو مقر به ، وعدم التعرض لخلق الأرض وما فيها بالفعل كما تعرض لخلق السماوات كذلك لا يلائم دعوى الاعتناء التي أشار إليها في بيان وجه تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها على أن خلق ما فيها بالفعل غير ظاهر من قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) لا سيما وقد ذكرت الأرض قبل مستقلة وذكر ما فيها مستقلا فلا يتبادر من الأرض هنا إلا تلك الأرض المستقلة لا هي مع ما فيها ، وأمر تقدم خلق الأرض وتأخره سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه.