بكر «مكاناتهم» بالجمع لتعددهم (فَمَا اسْتَطاعُوا) لذلك (مُضِيًّا) أي ذهابا إلى مقاصدهم (وَلا يَرْجِعُونَ) قيل هو عطف على (مُضِيًّا) المفعول به لاستطاعوا وهو من باب ـ تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ـ فيكون التقدير فما استطاعوا مضيا ولا رجوعا وإلا فمفعول استطاعوا لا يكون جملة ، والتعبير بذلك دون الاسم الصريح قيل للفواصل مع الإيماء إلى مغايرة الرجوع للمضي بناء على ما قال الإمام من أنه أهون من المضي لأنه ينبئ عن سلوك الطريق من قبل والمضي لا ينبئ عنه ، وقيل لذلك مع الإيماء إلى استمرار النفي نظرا إلى ظاهر اللفظ ويكون هناك ترق من جهتين إذا لوحظ ما أومأ إليه الإمام ، وقيل له مع الإيماء إلى أن الرجوع المنفي ما كان عن إرادة واختيار فإن اعتبارهما في الفعل المسند إلى الفاعل أقرب إلى التبادر من اعتبارهما في المصدر.
واقتصر بعضهم في النكتة على رعاية الفواصل ، والإمام بعد الاقتصار على رعاية الفواصل في بيان نكتة العدول عن الظاهر تقصيرا ؛ وقيل هو عطف على جملة ما استطاعوا ، والمراد ولا يرجعون عن تكذيبهم لما أنه قد طبع على قلوبهم ، وقيل هو عطف على ما ذكر إلا أن المعنى ولا يرجعون إلى ما كانوا عليه قبل المسخ وليس بالبعيد.
وعلى القولين المراد بالمضي الذهاب عن المكان ونفي استطاعته مغن عن نفي استطاعة الرجوع ، وأيا ما كان فالظاهر أن هذا وكذا ما قبله لو كان لكان في الدنيا ، وقال ابن سلام : هذا التوعد كله يوم القيامة وهو خلاف الظاهر ولا يكاد يصح على بعض الأقوال.
وأصل (مُضِيًّا) مضوي اجتمعت الواو ساكنة مع الياء فقلبت ياء كما هو القاعدة وأدغمت الياء في الياء وقلبت ضمة الضاد كسرة لتخف وتناسب الياء. وقرأ أبو حيوة وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي «مضيا» بكسر الميم اتباعا لحركة الضاد كالعتى بضم العين والعتى بكسرها. وقرئ «مضيا» بفتح الميم فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل كالرسيم والوجيف والصئي بفتح الصاد المهملة بعدها همزة مكسورة ثم ياء مشددة مصدر صأى الديك أو الفرخ إذا صاح (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) أي نطل عمره.
(نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاص بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره ، وفيه تشبيه التنكيس المعنوي بالتنكيس الحسي واستعارة الحسي له ، وعن سفيان أن التنكيس في سن ثمانين سنة ، والحق أن زمان ابتداء الضعف وانتقاص البنية مختلف لاختلاف الأمزجة والعوارض كما لا يخفى.
والكلام عطف على قوله تعالى (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا) إلخ عطف العلة على المعلول لأنه كالشاهد لذلك.
وقرأ جمع من السبعة «ننكسه» مخففا من الانكاس (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك قدر على ما ذكر من الطمس والمسخ وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما.
وقرأ نافع وابن ذكوان وأبو عمرو في رواية عياش «تعقلون» بتاء الخطاب لجرى الخطاب قبله.
(وَما عَلَّمْناهُ) بتعليم الكتاب المشتمل على هذا البيان والتلخيص في أمر المبدأ والمعاد (الشِّعْرَ) إذ لا يخفى على من به أدنى مسكة أن هذا الكتاب الحكيم المتضمن لجميع المنافع الدينية والدنيوية على أسلوب أفحم كل منطيق ببيان الشعر ولا مثل الثريا للثرى ، أما لفظا فلعدم وزنه وتقفيته ، وأما معنى فلأن الشعر تخيلات مرغبة أو منفرة أو نحو ذلك وهو مقر الأكاذيب ، ولذا قيل أعذبه أكذبه ، والقرآن حكم وعقائد وشرائع.
والمراد من نفي تعليمه صلىاللهعليهوسلم بتعليم الكتاب الشعر نفي أن يكون القرآن شعرا على سبيل الكناية لأن ما علمه الله