ما بدئ به السورة من قوله عزوجل : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [يس : ٦] ولو نظرت إلى هذا التخلص من حديث المعاد إلى حديث القرآن والإنذار لقضيت العجب من حسن موقعه (أَوَلَمْ يَرَوْا) الهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف أي ألم يتفكروا أو ألم يلاحظوا أو ألم يعلموا علما يقينيا مشابها للمعاينة زعم بعضهم أن هذا عطف على قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) [يس : ٣١] إلخ والأول للحث على التوحيد بالتحذير من النقم وهذا بالتذكير بالنعم المشار إليها بقوله تعالى : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) أي لأجلهم وانتفاعهم (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) أي مما تولينا إحداثه بالذات من غير مدخل لغيرنا فيه لا خلقا ولا كسبا.
والكلام استعارة تمثيلية فيما ذكر ، وجوز أن يكون قد كني عن الإيجاد بعمل الأيدي فيمن له ذلك ثم بعد الشيوع أريد به ما أريد مجازا متفرعا على الكناية ، وقال بعضهم : المراد بالعمل الأحداث وبالأيدي القدرة مجازا ، وأوثرت صيغة التعظيم والأيدي مجموعة تعظيما لشأن الأثر وإنه أمر عجيب وصنع غريب وليس بذاك ، وقيل الأيدي مجاز عن الملائكة المأمورين بمباشرة الأعمال حسبما يريده عزوجل في عالم الكون والفساد كملائكة التصوير وملائكة نفخ الأرواح في الأبدان بعد إكمال تصويرها ونحوهم ، ولا يخفى ما فيه.
ونحوه ما قيل الأيدي مجاز عن الأسماء فإن كل أثر في العالم بواسطة اسم خاص من أسمائه عزوجل.
وأنت تعلم أن الآية من المتشابه عند السلف وهم لا يجعلون اليد مضافة إليه تعالى بمعنى القدرة أفردت ـ كيد الله فوق أيديهم ـ أو ثنيت كخلقت بيدي أو جمعت كما هنا بل يثبتون اليد له عزوجل كما أثبتها لنفسه مع التنزيه الناطق به قوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وارتضاه كثير ممن وفقه الله تعالى من الخلق ، ولا أرى الطاعنين عليهم إلا جهلة (أَنْعاماً) مفعول (خَلَقْنا) وأخر عن الجارين المتعلقين به اعتناء بالمقدم وتشويقا إلى المؤخر وجمعا بينه وبين ما يتعلق به من أحكامه المتفرعة عليه والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية وخصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع ، وهذا كقوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي متملكون لها بتمليكنا إياها لهم ، والفاء قيل للتفريع على مقدر أي خلقنا لهم أنعاما وملكناها لهم فهم بسبب ذلك مالكون لها ، وقيل للتفريع على خلقها لهم وفيه خفاء. وجوز أن يكون الملك بمعنى القدرة والقهر من ملكت العجين إذا أجدت عجنه ، ومنه قول الربيع بن منيع الفزاري وقد سئل عن حاله بعد إذ كبر :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا |
|
أملك رأس البعير إن نفرا |
والأول أظهر ليكون ما بعد تأسيسا لا تأكيدا ، وأيا ما كان فلها متعلق بمالكون واللام مقوية للعمل وقدم لرعاية الفواصل مع الاهتمام ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرار مالكيتهم لها واستمرارها.
(وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ