واهدموا الغريّين! قال : فضحك القصار حتى جعل يفحص برجله من كثرة الضحك ، قلت أنا : فالذي يقع لي ويغلب على ظني أن المنذر لما صنع الغريين بظاهر الكوفة سنّ تلك السنّة ولم يشرط قضاء الحوائج الثلاث التي كان يشرطها ملك مصر ، والله أعلم ، وأن الغريّين بظاهر الكوفة بناهما المنذر بن امرئ القيس ابن ماء السماء ، وكان السبب في ذلك أنه كان له نديمان من بني أسد يقال لأحدهما خالد بن نضلة والآخر عمرو بن مسعود فثملا فراجعا الملك ليلة في بعض كلامه فأمر وهو سكران فحفر لهما حفيرتان في ظهر الكوفة ودفنهما حيّين ، فلما أصبح استدعاهما فأخبر بالذي أمضاه فيهما فغمه ذلك وقصد حفرتهما وأمر ببناء طربالين عليهما وهما صومعتان ، فقال المنذر : ما أنا بملك إن خالف الناس امري ، لا يمرّ أحد من وفود العرب إلا بينهما ، وجعل لهما في السّنة يوم بؤس ويوم نعيم ، يذبح في يوم بؤسه كلّ من يلقاه ويغري بدمه الطربالين ، فان رفعت له الوحش طلبتها الخيل ، وإن رفع طائر أرسل عليه الجوارح حتى يذبح ما يعنّ ويطليان بدمه ، ولبث بذلك برهة من دهره وسمّى أحد اليومين يوم البؤس وهو اليوم الذي يقتل فيه ما ظهر له من إنسان وغيره ، وسمى الآخر يوم النعيم يحسن فيه إلى كلّ من يلقى من الناس ويحملهم ويخلع عليهم ، فخرج يوما من أيام بؤسه إذ طلع عليه عبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر وقد جاء ممتدحا ، فلما نظر إليه قال : هلّا كان الذبح لغيرك يا عبيد! فقال عبيد : أتتك بحائن رجلاه ، فأرسلها مثلا ، فقال له المنذر : أو أجل قد بلغ أناه ، فقال رجل ممن كان معه : أبيت اللعن اتركه فاني أظن أن عنده من حسن القريض أفضل مما تريد من قتله فاسمع فان سمعت حسنا فاستزده وإن كان غيره قتلته وأنت قادر عليه ، فأنزل فطعم وشرب ثم دعا به المنذر فقال له : زدنيه ما ترى ، قال : أرى المنايا على الحوايا ، ثم قال له المنذر : أنشدني فقد كان يعجبني شعرك ، فقال عبيد : حال الجريض دون القريض وبلغ الحزام الطبّيين ، فأرسلهما مثلين ، فقال له بعض الحاضرين : أنشد الملك هبلتك أمك! فقال عبيد : وما قول قائل مقتول؟ فأرسلها مثلا أي لا تدخل في همك من لا يهتم بك ، قال المنذر : قد أمللتني فأرحني قبل أن آمر بك ، قال عبيد : من عزّ بزّ ، فأرسلها مثلا ، فقال المنذر : أنشدني قولك :
أقفر من أهله ملحوب
فقال عبيد :
أقفر من أهله عبيد ، |
|
فاليوم لا يبدي ولا يعيد |
عنّت له منيّة تكود ، |
|
وحان منها له ورود |
فقال له المنذر : أسمعني يا عبيد قولك قبل أن أذبحك ، فقال :
والله إن متّ ما ضرّني ، |
|
وإن عشت ما عشت في واحده |
فأبلغ بنيّ وأعمامهم |
|
بأن المنايا هي الواردة |
لها مدة فنفوس العباد |
|
إليها ، وإن كرهت ، قاصده |
فلا تجزعوا لحمام دنا ، |
|
فللموت ما تلد الوالده |
فقال المنذر : ويلك أنشدني! فقال :
هي الخمر بالهزل تكنى الطّلا ، |
|
كما الذئب يكنّى أبا جعدة |