وقد أبعد المغزى فيما أرى إلا أن ظاهر كلام الكشاف يقتضي كونه قوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) من الأخبار فتأمل (وَالسَّماءَ رَفَعَها) أي خلقها مرفوعة ابتداء لا أنها كانت مخفوضة ورفعها ، والظاهر أن المراد برفعها الرفع الصوري الحسي ، ويجوز أن يكون المراد به ما يشمل الصوري والمعنوي بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يرى جوازه ورفعها المعنوي الرتبي لأنها منشأ أحكامه تعالى وقضاياه ومنزل أوامره سبحانه ومحل ملائكته عزوجل ، وقرأ أبو السمال «والسماء» بالرفع على الابتداء ، ولا إشكال فيه لأن الجملة عليه اسمية معطوفة على مثلها ، وإنما الإشكال في النصب لأنه بفعل مضمر على شريطة التفسير أي ورفع السماء فتكون الجملة فعلية فإن عطفت على جملة ـ والنجم والشجر يسجدان ـ الكبرى لزم تخالف الجملتين لمعطوفة والمعطوف عليها بالاسمية والفعلية وهو خلاف الأولى ، وإن عطفت على جملة (يَسْجُدانِ) الصغرى لزم أن تكون خبرا ـ للنجم والشجر ـ مثلها ، وذلك لا يصح إذ لا عائد فيها إليهما ، وكذا يقال في العطف على كبرى وصغرى (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) وأجاب أبو علي باختيار الثاني ، وقال : لا يلزم في المعطوف على الشيء أن يعتبر فيه حال ذلك الشيء ، وتلا باب قولهم متقلدا سيفا ورمحا ، وبعضهم باختيار الأول ويحسن التخالف إذا تضمن نكتة ، وقال الطيبي : الظاهر أن يعطف على جملة (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) ليؤذن بأن الأصل أجرى الشمس والقمر ، وأسجد النجم والشجر ، فعدل إلى معنى دوام التسخير والانقياد في الجملتين الأوليين ، ومعنى التوكيد في الأخيرة والكلام فيما يتعلق بالرفع والنصب فيما إذا ولي العاطف جملة ذات وجهين مفصل في كتب النحو (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أي شرع العدل وأمر به بأن وفر على كل مستعد مستحقه ، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال عليه الصلاة والسلام : «بالعدل قامت السماوات والأرض» أي بقيتا على أبلغ نظام وأتقن إحكام ، وقال بعضهم : المراد بقاء من فيهما من الثقلين إذ لو لا العدل أهلك أهل الأرض بعضهم بعضا ، وأما الملأ الأعلى فلا يقع بينهم ما يحتاج للحكم والعدل ، فذكرهم للمبالغة ، والذي اختاره أن المراد بالسماوات والأرض العالم جميعه ولا شك أنه لو لا العدل لم يكن العالم منتظما. ومنشأ ما ذكره القائل ظن أن المراد بالعدل في الحديث العدل في الحكم لفصل الخصومات ونحوه وليس كما ظن بل المراد به عدل الله عزوجل وإعطاؤه سبحانه كل شيء خلقه. وتفسير الميزان بما ذكر هو المروي عن مجاهد والطبري والأكثرين ، وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية ؛ وعن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك أن المراد به ما يعرف به مقادير الأشياء من الآلة المعروفة والمكيال المعروف ونحوهما ، فالمعنى خلقه موضوعا مخفوضا على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم المنزلة من السماء وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم ، والمشهور أنه بهذا المعنى مجاز أيضا من استعمال المقيد في المطلق ، وقيل : هو حقيقة فالواضع لم يضعه إلا لما يعرف به المقادير على أي هيئة ومن أي جنس كان ، والناس لما ألفوا المعروف لا يكاد يتبادر إلى أذهانهم من لفظ (الْمِيزانَ) سواه ، وقيل : المراد به المعروف واللفظ فيه حقيقة ولا يسلم الوضع للعام.
ورجح القولان الأخيران بأن ما بعد أشدّ ملاءمة لهما وبين الوضع والرفع عليهما تقابل ، وقد قرأ عبد الله ـ وخفض الميزان ـ والأول بأنه أتم فائدة فزن ذلك بميزان ذهنك (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي لئلا تطغوا فيه أي حقه وشأنه بأن تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغي فيه على أن (أن) ناصبة و (لا) نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بقوله تعالى : (وَضَعَ الْمِيزانَ) وجوز ابن عطية والزمخشري كون (أن) تفسيرية و (لا) ناهية.
واعترضه أبو حيان بأنه لم يتقدم جملة فيها معنى القول وهو شرط في صحة جعل (أن) مفسرة ، وأجيب بأن وضع الميزان فيه ذلك لأنه بالوحي وإعلام الرسل عليهم والسلام ، وزعم بعضهم أن التفسير متعين لأنه لا معنى لوضع