وأنت تعلم أن الحمل مفيد بدون ذلك كما سمعت بل هو أبلغ وأنسب بالمقام وأيا ما كان فقوله تعالى : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) مبتدأ وخبر والجملة استئناف بياني ، وقيل : (السَّابِقُونَ) السابق مبتدأ (وَالسَّابِقُونَ) اللاحق تأكيد له وما بعد خبر وليس بذاك أيضا لفوات مقابلة ما ذكر لقوله تعالى : (فَأَصْحابُ) إلخ ولأن القسمة لا تكون مستوفاة حينئذ ، ولفوات المبالغة المفهومة من نحو هذا التركيب على ما سمعت مع أنهم أعني السابقين أحق بالمدح والتعجيب من حالهم من السابقين ولفوات ما في الاستئناف بأولئك المقربون من الفخامة وإنما لم يقل ـ السابقون ما السابقون ـ على منوال الأولين لأنه جعل أمرا مفروغا مسلما مستقلا في المدح والتعجيب ، والاشارة بأولئك إلى السابقين وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل ، و (الْمُقَرَّبُونَ) من القربة بمعنى الحظوة أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل الذين أنيلوا حظوة ومكانة عند الله تعالى ، وقال غير واحد : المراد الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم.
هذا وفي الإرشاد الذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) خبر مبتدأ محذوف وكذا قوله سبحانه : (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) وقوله جل شأنه : (وَالسَّابِقُونَ) فإن المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام.
وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها ، والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة ، والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كلا منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عن ترامي أحوالهما في الخير والشر إنباء إجماليا مشعرا بأن لأحوال كل منهما تفصيلا مترقبا لكن لا على أن (ما) الاستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على ما رآه سيبويه في أمثاله بل على أنها خبر لما بعدها فإن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون (ما) خبرا لا بيان أن أمرا بديعا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال في (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) ، وأما القسم الأخير فحيث قرن به بيان محاسن أحواله لم يحتج فيه إلى تقديم الأنموذج فقوله تعالى : (السَّابِقُونَ) مبتدأ والإظهار في مقام الإضمار للتفخيم و (أُولئِكَ) مبتدأ ثان ، أو بدل من الاول وما بعده خبر له ، أو للثاني ، والجملة خبر للأول انتهى ، وقيل عليه : إنه ليس في جعل جملتي الاستفهام وقوله سبحانه : (السَّابِقُونَ) إخبارا لما قبلها بيان لأوصاف الأقسام وأحوالها تفصيلا حتى يقال : حقها أن تبين بعد أنفس الأقسام بل فيه بيان الأقسام مع إشارة إلى ترامي أحوالها في الخير والشر والتعجيب من ذلك.
وأيضا مقتضى ما ذكره أن لا يذكر (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) و (ما أَصْحابُ الشِّمالِ) في التفصيل ، وتعقب هذا بأن الذكر محتاج إلى بيان نكتة على الوجه الدائر على ألسنتهم كاحتياجه إليه على هذا الوجه ، ولعلها عليه أنه لما عقب الأولين بما يشعر بأن لأحوال كل تفاصيل مترقبة أعيد ذلك للإعلام بأن الأحوال العجيبة هي هذه فلتسمع ، والذي يتبادر للنظر الجليل ما في الإرشاد من كون أصحاب الميمنة وكذا كل من الأخيرين خبر مبتدأ محذوف كما سمعت لأن المتبادر بعد بيان الانقسام ذكر نفس الأقسام على أن تكون هي المقصودة أولا وبالذات دون الحكم عليها وبيان أحوالها مطلقا وإن تضمن ذلك ذكرها لكن ما ذكروه أبعد مغزى ومع هذا لا يتعين على ما ذكر كون تينك الجملتين الاستفهاميتين معترضتين بل يجوز أن يكون كل منهما صفة لما قبلها بتقدير القول كأنه قيل : فأحدها أصحاب الميمنة المقول فيهم (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وكذا يقال في (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) إلخ ، ويجعل أيضا (السَّابِقُونَ) صفة ـ للسابقون ـ قبله ، والتأويل في الوصفية كالتأويل