الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أن المشروب تبع له ألا يرى أن الضيف يسقى بعد أن يطعم ، وقد ذكر الأطباء أن الماء مبذرق ، ويؤيد ذلك تقديمه على المشروب في النظم الجليل ، وللإمام في هذا المقام كلام طويل اعترض به على الزمخشري وبين فيه وجه الذكر أولا والحذف ثانيا ، ولم أره أتى بما يشرح الصدر ، وخير منه عندي قول ابن الأثير في المثل السائر : إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب ، وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق ، وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد ، فلذا قرن باللام لتقرير إيجاده وتحقيق أمره انتهى.
(فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) تحضيض على شكر الكل لأنه أفيد دون عذوبة الماء فقط كما ذهب إليه البعض.
نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا شرب الماء قال : الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) التي منها الزناد وهي المرخ والعفار ، وقيل : المراد بالشجرة نفس النار كأنه قيل : نوعها أو جنسها فاستعير الشجرة لذلك وهو قول متكلف بلا حاجة.
(أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها بالإنشاء المنبئ عن بديع الصنع المعرب عن كمال القدرة والحكمة لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الأشجار التي لا تخلو عن النار حتى قيل ـ في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار ـ كما أن التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] لذلك (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) استئناف معين لمنافعها أي جعلناها تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا بها ما أوعدوا به ، أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم لما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» وعلى الوجهين التذكرة من الذكر المقابل للنسيان ولم ينظر في الأول إلى أنها من جنس نار جهنم أولا وفي الثاني نظر إلى ذلك ، وقيل : تبصرة في أمر البعث لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده ، وقيل : تبصرة في الظلام يبصر بضوئها ، وفيه أن التذكرة لا تكون بمعنى التبصرة المأخوذة من البصر وكون المراد تذكرة لنار جهنم هو المأثور عن الكثيرين ، ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة (وَمَتاعاً) ومنفعة (لِلْمُقْوِينَ) للذين ينزلون القواء وهي القفر من أقوى دخل القواء كأصحر دخل الصحراء وتخصيص المقوين بذلك لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين ، أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد.
وقيل : (لِلْمُقْوِينَ) أي المسافرين ، ورواه جمع عن ابن عباس وعبد بن حميد عن الحسن ، وهو وابن جرير وعبد الرزاق عن قتادة بزيادة كم من قوم قد سافروا ثم أرملوا فأججوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها ، وكان إطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيرا ما يسلكون القفراء والمفاوز ، وقيل : (لِلْمُقْوِينَ) للفقراء يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد كأنه تصور من حال الحاصل في القفر الفقر ، فقيل : ـ أقوى ـ فلان أي افتقر كقولهم أترب وأرمل ، وقال ابن زيد : للجائعين لأنهم أقوت أي خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام فهم يحتاجون إليها لطبخ ما يأكلون وخصوا ـ على ما قيل ـ لأن غيرهم يتنعم بها لا يجعلها متاعا ، وتعقب بأنه بعيد لعدم انحصار ما يهمهم ويسدّ خلتهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ ، وقال عكرمة ومجاهد : المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين