سبحانه غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإعراض عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله ، وقيل : تقديره مستغنى عنهم ، أو موعودون بالعذاب أو مذمومون.
وجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني أو على أنه نعت ـ لكل مختال ـ فإنه مخصص نوعا ما من التخصيص فساغ وصفه بالمعرفة وهذا ليس بشيء ، وقال ابن عطية : جواز مثل ذلك مذهب الأخفش ولا يخفى ما في الجملة من الإشعار بالتهديد لمن تولى ، وقرأ نافع وابن عامر ـ فإن الله الغني ـ بإسقاط ـ هو ـ وكذا في مصاحف المدينة والشام وهو في القراءة الأخرى ضمير فصل ، قال أبو علي : ولا يحسن أن يكون مبتدأ وإلا لم لم يجز حذفه في القراءة الثانية لأن ما بعده صالح لأن يكون خبرا فلا يكون هناك دليل على الحذف وهذا مبني على وجوب توافق القراءتين إعرابا وليس بلازم (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) أي من بني آدم كما هو الظاهر (بِالْبَيِّناتِ) أي الحجج والمعجزات (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي جنس الكتاب الشامل للكل ، والظرف حال مقدرة منه على ما قال أبو حيان ، وقيل : مقارنة بتنزيل الاتصال منزلة المقارنة (وَالْمِيزانَ) الآلة المعروفة بين الناس كما قال ابن زيد وغيره ، وإنزاله إنزال أسبابه ، ولو بعيدة ، وأمر الناس باتخاذه مع تعليم كيفيته.
(لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) علة لا نزال الكتاب والميزان والقيام بالقسط أي بالعدل يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان ، وفي أمور المعاد باحتذاء الكتاب وهو لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به معاشا ومعادا.
(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) قال الحسن : أي خلقناه كقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] وهو تفسير يلازم الشيء فإن كل مخلوق منزل باعتبار ثبوته في اللوح وتقديره موجودا حيث ما ثبت فيه.
وقال قطرب : هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف (فِيهِ بَأْسٌ) أي عذاب (شَدِيدٌ) لأن آلات الحرب تتخذ منه ، وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس ، وقوله تعالى : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي في معايشهم ومصالحهم إذ ما من صنعة إلا والحديد أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش ، ومن يوم بذلك أيضا ليتم التمدن المحتاج إليه النوع ، وليتم القيام بالقسط ، كيف وهو شامل أيضا لما يخص المرء وحده ، والجملة الظرفية في موضع الحال ، وقوله سبحانه : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) عطف على محذوف يدل عليه السياق أو الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم الله تعالى علما يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال آلات الحرب من الحديد في مجاهدة أعدائه والحذف للإشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته وأن الأول مقدمة له ، وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم إلخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها وقد حذف المعطوف وأقيم متعلقة مقامه ، وقوله تعالى : (بِالْغَيْبِ) حال من فاعل ينصر ، أو من مفعوله أي غائبا منهم أو غائبين منه ، وقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) اعتراض تذييلي جيء به تحقيقا للحق وتنبيها على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريد.
هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهمالسلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهمالسلام ، وفسر ـ البينات ـ كما فسرنا بناء على الملائكة ترسل بالمعجزات كإرسالها بالحجج لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الاقتصار على الحجج وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاهر ، وإنزال الميزان بمعنى الآلة