الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر أو يرفعهم في الآخرة بالإيواء إلى ما يليق بهم من غرف الجنات ، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيما لهم ، وجوز كون المراد بالموصولين واحدا والعطف لتنزيل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات ، فالمعنى يرفع الله المؤمنين العالمين درجات ، وكون العطف من عطف الخاص على العام هو الأظهر ، وفي الانتصاف في الجزاء برفع الدرجات مناسبة للعمل المأمور به وهو التفسيح في المجالس وترك ما تنافسوا فيه من الجلوس في أرفعها وأقربها من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا جوزي على تواضعه برفع الدرجات كقوله : من تواضع لله تعالى رفعه الله تعالى ، ثم لما علم سبحانه أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا لله عزوجل.
وقيل : إنه تعالى خص أهل العلم ليسهل عليهم ترك ما عرفوا بالحرص عليه من رفعة المجالس وحبهم للتصدير ، وهذا من مغيبات القرآن لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في ذلك.
والخفاجي أدرج هذا في نقل كلام صاحب الانتصاف وكلامه على ما سمعته أوفق بالأدب مع أهل العلم ، ولا أظن ـ بالذين أوتوا العلم ـ المذكورين في الآية أنهم كالعلماء الذين عرّض بهم الخفاجي ، نعم إنه عليه الرحمة صادق فيما قال بالنسبة إلى كثير من علماء آخر الزمان كعلماء زمانه وكعلماء زماننا ـ لكن كثير من هؤلاء ـ إطلاق اسم العالم على أحدهم مجاز لا تعرف علاقته ، ومع ذلك قد امتلأ قلبه من حب الصدر وجعل يزاحم العلماء حقيقة عليه ولم يدر أن محله لو أنصف العجز ، هذا واستدل غير واحد بالآية على تقديم العلم ولو باهليا شابا على الجاهل ولو هاشميا شيخا ، وهو بناء على ما تقدم من معناها لدلالتها على فضل العالم على غيره من المؤمنين وأن الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه ، ويجعل منزلته فوق منزلته فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل.
وقال الجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم : معنى الآية يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكم درجات على غيرهم فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم ، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى.
وهذا المعنى الذي نقله ظاهر في أن المتعاطفين متحدان بالذات والعطف لجعل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات وهو احتمال بعيد ، ويظهر منه أيضا أنه ظن رفع يرفع على أن الجملة استئناف وقع جوابا عن السؤال عن علة الأمر السابق مع أن الأمر ليس كذلك ، ويحتمل أنه علم أنه مجزوم في جواب الأمر لكن لم يعتبر كون الرفع درجات جزاءه الامتثال على نحو كون الفسح قبله جزاءه فتأمله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) تهديد لمن لم يمتثل بالأمر واستكره ، وقرئ بما ـ يعملون ـ بالياء التحتانية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) أي إذا أردتم المناجاة معه عليه الصلاة والسلام لأمر ما من الأمور (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي فتصدقوا قبلها ، وفي الكلام استعارة تمثيلية ، وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان أو مكنية بتشبيه النجوى بالإنسان ، وإثبات اليدين تخييل ، وفي (بَيْنَ) ترشيح على ما قيل ، ومعناه قبل ، وفي هذا الأمر تعظيم الرسولصلىاللهعليهوسلم ونفع للفقراء وتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ودفع للتكاثر عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم من غير حاجة مهمة ، فقد روي عن ابن عباس وقتادة أن قوما من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلىاللهعليهوسلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت هذه الآية.
وعن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلىاللهعليهوسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره عليه