إلى الله تعالى والاستعاذة به من فتنه أهل الكفر والاستغفار مما فرط منهم وهو كما قيل : وجه حسن لا يأباه النظم الكريم ، وفيه شمة من أسلوب (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧١] لأنه سبحانه لما حثهم على الائتساء بمن سمعت في الانتهاء عن الكفر وموالاة أهله ، ثم قال سبحانه ما يدل على اللجأ إليه تعالى يكون في المعنى نهيا عن الأول وأمرا بالثاني.
وجعل بعضهم القول على هذا الوجه معطوفا على (لا تَتَّخِذُوا) أي وقولوا ربنا إلخ ، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور في المواضع الثلاثة للقصر كأنه قيل : ربنا عليك توكلنا لا على غيرك وإليك أنبنا لا إلى غيرك وإليك المصير لا إلى غيرك (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا ـ قاله ابن عباس ـ فالفتنة مصدر بمعنى المفتون أي المعذب من فتن الفضة إذا أذابها فكأنه قيل : ربنا لا تجعلنا معذبين للذين كفروا ، وقال مجاهد : أي لا تعذبنا بأيديهم ، أو بعذاب من عندك فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون فيفتنوا لذلك.
وقال قريبا منه قتادة وأبو مجلز ، والأول أرجح ، ولم تعطف هذه الجملة الدعائية على التي قبلها سلوكا بهما مسلك الجمل المعدودة ، وكذا الجملة الآتية ، وقيل : إن هذه الجملة بدل مما قبلها ، ورد بعدم اتحاد المعنيين كلا وجزءا ولا مناسبة بينهما سوى الدعاء (وَاغْفِرْ لَنا) ما فرط منا (رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب الذي لا يذل من التجأ إليه ؛ ولا يخيب رجاء من توكل عليه (الْحَكِيمُ) الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) أي في إبراهيم عليهالسلام ومن معه (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الكلام فيه نحو ما تقدم ، وقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي ثوابه تعالى أو لقاءه سبحانه ونعيم الآخرة أو أيام الله تعالى واليوم الآخر خصوصا ، والرجاء يحتمل الأمل والخوف صلة ـ لحسنة ـ أو صفة ، وجوز كونه بدلا من (لَكُمْ) بناء على ما ذهب إليه الأخفش من جواز أن يبدل الظاهر من ضمير المخاطب ـ وكذا من ضمير المتكلم ـ بدل الكل كما يجوز أن يبدل من ضمير الغائب ، وأن يبدل من الكل بدل البعض وبدل الاشتمال وبدل الغلط.
ونقل جواز ذلك الإبدال عن سيبويه أيضا ، والجمهور على منعه وتخصيص الجواز ببدل البعض والاشتمال والغلط.
وذكر بعض الأجلة أنه لا خلاف في جواز أن يبدل من ضمير المخاطب بدل الكل فيما يفيد إحاطة كما في قوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) [المائدة : ١١٤] وجعل ما هنا من ذلك وفيه خفاء ، وجملة (لَقَدْ كانَ) إلخ قيل : تكرير لما تقدم من المبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليهالسلام ومن معه ، ولذلك صدرت بالقسم وهو على ما قال الخفاجي : إن لم ينظر لقوله تعالى : (إِذْ قالُوا) فإنه قيد مخصص فإن نظر له كان ذلك تعميما بعد تخصيص ، وهو مأخوذ من كلام الطيبي في تحقيق أمر هذا التكرير.
والظاهر أن هذا مقيد بنحو ما تقدم كأنه قيل : لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة إذ قالوا إلخ ، وفي قوله سبحانه : (لِمَنْ كانَ) إلخ إشارة إلى أن من كان يرجو الله تعالى واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم وإن تركه من مخايل عدم رجاء الله سبحانه واليوم الآخر الذي هو من شأن الكفرة بل مما يؤذن بالكفر كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة.
(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي من أقاربكم المشركين (مَوَدَّةً) بأن يوافقكم في الدين ، وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم التصلب في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهم ومقاطعتهم إياهم بالكلية تطييبا لقلوبهم ، ولقد أنجز الله سبحانه وعده الكريم حين أتاح لهم الفتح فأسلم قومهم فتم