وبالجملة الصحيح كما قال البعض وهو الذي أختاره أن صدر هذه السورة الكريمة هو أول ما نزل من القرآن على الإطلاق كيف وقد ورد حديث بدء الوحي المروي عن عائشة من أصح الأحاديث وفيه فجاءه الملك فقال اقرأ فقال قلت «ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد» إلخ. والظاهر أن ما فيه نافية بل قال النووي هو الصواب وذلك إنما يتصور أولا وإلّا لكان الامتناع من أشد المعاصي ويطابقه ما ذكره الأئمة في باب تأخير البيان وسنشير إليه إن شاء الله تعالى. وفي الكشف الوجه حمل قول جابر على السورة الكاملة وفي شرح صحيح مسلم الصواب أن أول ما نزل (اقْرَأْ) أي مطلقا ، وأول ما نزل بعد فترة الوحي (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر انتهى. وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله والله تعالى أعلم. ولما ذكر سبحانه في سورة التين خلق الإنسان في أحسن تقويم بيّن عزوجل هنا أنه تعالى خلق الإنسان من علق فكان ما تقدم كالبيان للعلة الصورية ، وهذا كالبيان للعلة المادية. وذكر سبحانه هنا أيضا من أحواله في الآخرة ما هو أبسط مما ذكره عزوجل هناك فقال سبحانه وتعالى :
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(١٩)
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* اقْرَأْ) أي ما يوحى إليك من القرآن فالمفعول مقدّر بقرينة المقام كما قيل وليس الفعل منزلا منزلة اللازم ولا أن مفعوله قوله تعالى (بِاسْمِ رَبِّكَ) على أن الباء زائدة كما قال أبو عبيدة وزعم أن المعنى اذكر ربك ، بل هي أصلية ومعناها الملابسة وهي متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع حالا كما روي عن قتادة. والمعنى (اقْرَأْ) مبتدئا أو مفتتحا (بِاسْمِ رَبِّكَ) أي قل بسم الله ثم اقرأ وهو ظاهر في أنه لو افتتح بغير اسمه عزوجل لم يكن ممتثلا ، واستدل بذلك على أن البسملة جزء من كل سورة وفيه بحث وكذا الاستدلال به على أنها ليست من القرآن للمقابلة إذ لقائل أن يقول إنها تخصص القرآن المقدر مفعولا بغيرها. وبعضهم استدل على أنها ليست بقرآن في أوائل السور بأنها لم تذكر فيما صح من أخبار بدء الوحي الحاكية لكيفية نزول هذه الآيات كذا أفاده النووي عليه الرحمة ، ثم قال : وجواب المثبتين أنها لم تنزل أولا بل نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة كذلك وهذا خلاف ما أخرج الواحدي عن عكرمة والحسن أنهما قالا : أول ما نزل من القرآن بسم الله الرحمن الرحيم ، وأول سورة اقرأ. وكذا خلاف ما أخرجه ابن جرير وغيره من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال : أول ما نزل جبريل عليهالسلام على النبي صلىاللهعليهوسلم قال : يا محمد استعذ. ثم قل بسم الله الرحمن الرحيم ، وقد عد القول بأنها أول ما نزل أحد الأقوال في تعيين أول منزل من القرآن. وقال الجلال السيوطي : إن هذا القول لا يعد عندي قولا برأسه فإنه من ضرورة نزول السورة نزول