من القرآن مهما كانت بعيدة ، ولكن الملاحظة الذكية الأولى التي يبدأ بها المؤلف كتابه ، وهو يحتاط لتعليمات كلماته كي لا يساء فهمها ، هي تأكيده في أول عبارة من كتابه على توضيح ضروري جدا لفهم أفكاره فهما سليما حيث يقول (١) «من حقيقة القرآن أن فيه تفصيل كل شيء ... وأول ما يتعثر فيه الوعي البشري ، وهو يحاول فهم أن القرآن فيه تفصيل كل شيء ، أن يظن أن القرآن فيه تفصيل مادة الحياة بذاتها ... حتى لقد ظن بعض الناس أن القرآن فيه ذكر أجزاء المادة ، أو تفصيلات المعادلات الرياضية أو الكيميائية ، إلى غير ذلك من تفصيلات الوقائع المادية ذاتها ... وليس في ذلك شيء من الصواب ، وأن القرآن لهو أعظم وأعلى قدرا من أن يكون ضمن محتويات الحياة المادية. إن القرآن كلام الله ، فهو ، كما سنرى ، فوق الحياة وليس ضمن محتوياتها ، القرآن فيه تفصيل كل شيء ، حيث هو مهيمن على تفصيلات المادة بتفصيلات الحقيقة المحيطة بسائر علاقات الأشياء بعضها ببعض ، فالخلق ، أي أجزاء الأحياء والأشياء في رحاب الكون ، لا بد له من علاقة بالخلق ، والإنسان ، وهو يبحث في حقائق الكتل المادية ، لا بد له من حساب في علاقته هو نفسه بهذه الكتل المادية ، الإنسان ومرائيه ومشاهداته بحاجة إلى علاقة ثالثة ، إلى ضلع ثالث ، يكمل مثلث الإنسان والأشياء بضلعهما الثالث وهو الأخلاق أو مراقبة المجتمع الإنساني له» ، علما أن الأخلاق عنده ليست بالمعنى المباشر المعروف وإنما هو يبنيها على أساس نوع السلوك الإنساني تجاه علاقة الإنسان بالأشياء بعد إدراكها له بشكل معين ، فيقول (٢) «إذا كانت المادة تتحول إلى طاقة ، والطاقة تتحوّل إلى مادة ، وكما هي حقيقة حياتنا التي نحياها ، فإن سائر المنتجات المادية تتحول إلى أخلاق ، أي إلى لحظة التصرّف في المنتجات ، وقد يكون التصرّف أمينا صادقا يعطي كل ذي حق حقه ، وقد يحدث عكس ذلك تماما ، وعلى ذلك ، فالعالم كله بحاجة إلى هذا الاكتشاف الضخم في كلمات القرآن لأنها تحقق ذلك كله ، وتعطي كل مرحلة منه حقها الواضح الذي يربط بين المادة والأخلاق ربطا عضويا لا شك فيه ، كما حدد القرآن لكل كلمة من كلماته قيمة يقينية هي أعز من حقائق العلم التطبيقية نفسها».
فكيف بنى هذا المؤلف منهجه في الكتاب؟ وما هي الأسس التي اعتمد عليها في إثبات هذه الفروض التي طرحها فيه؟ ومن ثم حكمه على الإعجاز العلمي للقرآن ، وما هي المساحة التي أعطاها له؟
__________________
(١) القرآن تفسير الكون والحياة ـ محمّد العفيفي ، ص ٧.
(٢) المصدر السابق ، ص ٥٠.