سورة النحل أيضا (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل / ٦٤]. فالذي اختلفوا فيه هو أساليب تفكّرهم ، وأساليب فهمهم لحقائق الأشياء ، حيث بيّن لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن الحقّ جلّ وعلا هو وحده ربّ كل شيء ، وهذا بيان قرآني ظاهر ، فعمل الرّسول صلىاللهعليهوسلم هو بيان البيان».
وهكذا يصل المؤلّف إلى ختام هذا القول بالتأكيد الواضح على أن كلمة التفسير في إطلاقها على القرآن على أساس أن يكون الناس هم الذين يفسّرون القرآن شيء غير صحيح ، أما من استطاع أن يتدبّر القرآن فليفعل على أن لا يدّعي أنّه يفسر كلاما محتاجا لتفسير ، وإنما على أساس أن القرآن هو المفسّر للحياة والأحياء ، وأن من يتدبّر القرآن من النّاس فهو إنما يفسّر الناس القرآن وهم منه بهذا المكان.
إذن ، فالمؤلّف يطرح كلمة التدبّر بدل التفسير والتأويل ، ويعتبر أن مقام رسول الله عليه الصّلاة والسّلام هو قمة التدبّر ومقام الكافة هو التدبّر ، كما يناقش المؤلف ابن تيمية في قوله بأن السنّة شارحة للقرآن ، ويناقش الأحاديث النبوية مثل (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) ، ويعتبر التطبيق العملي للقرآن هو معناها ، ويعتقد أن القرآن هو الذي يهيمن على السنّة ويفسّرها وليس العكس ، كما هو مشهور عند المفسّرين والأصوليين ، كما يرد على معنى الحديث (اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل) في حق ابن عباس ، فيورد اختلاف الرواة على كلمة التأويل حيث وردت مرّة ، ووردت بدلها الحكمة مرة أخرى ليصل إلى القول : «إن كلمة تأويل في حديثه صلىاللهعليهوسلم تعني كلمة ما يؤول إليه أمر الحياة والأحياء جميعا ، إذ يحقّ الله تعالى الحقّ بكلماته» ، ويعتقد أن المقصود بقوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف / ٥٣] هو حالنا في الدنيا ، حيث نحن بانتظار دائب لما سبق به القرآن من أنباء الغيب ، فتأويله متحقق في الدنيا على توالي اكتشافات العلوم ، وفي قمّة هذه الاكتشافات يوم يأتي تأويله ، أي يأتي يوم القيامة ، أما كلمة التأويل في الآية الأخرى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران / ٧] ، أما الراسخون في العلم فعلمهم هو تسليمهم بالجهد الإنساني ، وبذلك يصبح الإيمان هو أعلى درجات العلم غير المباشر ، أي العلم المتصل بالإيمان بالحق. فهاهنا يتحقق العلم بعدم العلم البشري ، ويتحقّق الإيمان بالعلم الإلهي (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) [آل عمران / ٧] وقولهم (آمَنَّا بِهِ) هو اتصالهم بعلم الله ، فهم بالعبادة الخالصة لربّهم سبحانه بين عبادتين : عبادة بالفكر ، فهم الراسخون في العلم ، وعبادة بالعمل ، فهم في تطبيق متواصل للعلم الذي لا يحصل بالاكتساب وإنما يحصل بالاقتراب (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق / ١٩] ، وحينما يسأل هل بالإمكان الاستفادة