الثاني أنها كلّها على الإباحة حتى [٨] يأتى دليل الحظر.
الثالث أن لا حكم لها حتى يأتى الدليل بأى حكم اقتضى فيها (١).
والذي يقول بأن أصلها إباحة أو حظر اختلف منزعه في دليل ذلك ؛ فبعضهم تعلق فيه بدليل العقل ، ومنهم من تعلق بالشرع.
والذي يقول : إن طريق ذلك الشرع قال : الدليل على الحكم بالإباحة قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، فهذا سياق (٢) القول في المسألة إلى الآية.
فأما سائر الأقسام المقدمة فقد أوضحناها في أصول الفقه ، وبيّنا أنه لا حكم للعقل ، وأن الحكم للشرع ؛ ولكن ليس لهذه الآية في الإباحة ودليلها مدخل ولا يتعلق بها محصل.
وتحقيق ذلك أن الله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الدلالة ، والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم وجريانها في التقديم والتأخير بحكم الإرادة ، وعاتب الله تعالى الكفار على جهالتهم بها ، فقال (٣) : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ).
فخلقه سبحانه وتعالى الأرض ، وإرساؤها بالجبال ، ووضع البركة فيها ، وتقدير الأقوات بأنواع الثمرات وأصناف النبات إنما كان لبنى آدم ؛ تقدمة لمصالحهم ، وأهبة لسدّ مفاقرهم ، فكان قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) مقابلة الجملة بالجملة ؛ للتنبيه على القدرة المهيّأة لها للمنفعة والمصلحة ، وأن جميع ما في الأرض إنما هو لحاجة الخلق ؛ والبارئ تعالى غنىّ عنه متفضّل به ، وليس في الإخبار بهذه العبارة (٤) عن هذه الجملة ما يقتضى حكم الإباحة ، ولا جواز التصرّف ؛ فإنه لو أبيح جميعه جميعهم جملة منثورة النظام لادّى ذلك إلى قطع الوصائل والأرحام ، والتهارش في الحطام (٥). وقد بيّن لهم طريق الملك ، وشرح لهم مورد الاختصاص ، وقد اقتتلوا وتهارشوا وتقاطعوا ؛ فكيف لو شملهم التسلّط وعمّهم
__________________
(١) في ا : اقتضاه فيها.
(٢) في ا : بمعونة انسياق.
(٣) سورة فصلت ، آية ٩ ، ١٠
(٤) م : بهذه القدرة.
(٥) التهارش : التقاتل. والحطام ـ كغراب : ما تكسر من اليبس.