الاسترسال ؛ وإنما يجب على الخلق ـ إذا سمعوا هذا النداء ـ أن يخرّوا سجّدا ؛ شكرا لله تعالى لهذه الحرمة لحق ما ذلك من نعمه ، ثم يتوكّفوا (١) بعد ذلك سؤال وجه الاختصاص لكلّ واحد بتلك المنفعة.
ونظير هذا من المتعارف بين الخلق على سبيل التقريب لتفهيم الحقّ ما لو قال حكيم لبنيه : قد أعددت لكم ما عندي من كراع (٢) وسلاح ومتاع وعرض وقرض لما كان ذلك مقتضيا لتسليطهم عليه كيف شاءوا حتى يكون منه بيان كيفية اختصاصهم.
وقد قال الله سبحانه : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ـ يعنى في الجنة. فلا يصل أحد منهم إليه إلّا بتبيان حظّه منه وتعيين اختصاصه به.
الآية السابعة ـ قوله تعالى (٣) : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).
قال علماؤنا : البشارة هي الإخبار عن المحبوب ، والنذارة هي الإخبار بالمكروه ، وذلك في البشارة يقتضى أول مخبر بالمحبوب ، ويقتضى في النّذارة كلّ مخبر.
وترتّب على هذا مسألة من الأحكام ، وذلك قول المكلّف : من بشرنى من عبيدي بكذا فهو حرّ.
فاتفق العلماء على أنّ أول مخبر له به يكون عتيقا دون الثاني.
ولو قال : من أخبرنى من عبيدي بكذا فهو حرّ ، فهل يكون الثاني مثل الأول أم لا؟ اختلف الناس فيه (٤) ؛ فقال أصحاب الشافعىّ : يكون حرّا ؛ لأن كل واحد منهم مخبر [٩]. وعند علمائنا لا يكون به حرّا ؛ لأن الحالف إنما قصد خبرا يكون بشارة ، وذلك يختصّ بالأول ، وهذا معلوم عرفا ، فوجب صرف اللفظ إليه.
فإن قيل : فقد قال الله تعالى (٥) : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، فاستعمل البشارة في المكروه.
فالجواب أنّهم كانوا يعتقدون أنهم يحسنون ، وبحسب ذلك كان نظرهم للبشرى ، فقيل لهم : بشارتكم على مقتضى اعتقادكم عذاب أليم. فخرج اللفظ على ما كانوا يعتقدون أنهم
__________________
(١) التوكف : التوقع والانتظار.
(٢) الكراع : اسم يجمع الخيل.
(٣) الآية الخامسة والعشرون.
(٤) في ا : اختلفوا فيه.
(٥) سورة آل عمران ، آية ٢١