واختلف فيه نقل المفسرين على روايتين :
الأولى ـ روى أن زكريا قال : أنا أحقّ بها ، خالتها (١) عندي. وقال بنو إسرائيل : نحن أحقّ بها ، بنت عالمنا ، فاقترعوا عليها بالأقلام ، وجاء كلّ واحد بقلمه ، واتفقوا أن يجعلوا الأقلام في الماء الجاري ، فمن وقف قلمه ولم يجر في الماء فهو صاحبها (٢)
قال النبي عليه السلام : فجرت الأقلام وعال (٣) قلم زكريا ؛ كانت آية ، لأنه نبي تجرى الآيات على يده.
الثاني ـ أنّ زكريا كان يكفلها حتى كان عام مجاعة فعجز وأراد منهم أن يقترعوا ، فاقترعوا ، فوقعت القرعة عليهم (٤) لما أراد الله من تخصيصه بها.
ويحتمل أن تكون أنها لما نذرتها لله تخلّت عنها حين بلغت السعى ، واستقلّت بنفسها ، فلم يكن لها بدّ من قيّم ، إذ لا يمكن انفرادها بنفسها ، فاختلفوا فيه فكان ما كان.
المسألة الثانية ـ القرعة أصل في شريعتنا ؛ ثبت أن النبي عليه السلام كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها ، وهذا مما لم يره مالك شرعا.
والصحيح أنه دين ومنهاج لا يتعدى ، وثبت عنه أيضا صلّى الله عليه وسلّم أن رجلا أعتق عبيدا له ستة في مرضه لا مال له غيرهم. فأقرع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بينهم ، فأعتق اثنين وأرقّ أربعة.
وهذا مما رآه مالك والشافعى ؛ وأباه أبو حنيفة ؛ واحتج بأنّ القرعة في شأن زكريا وأزواج النبىّ عليه السلام كانت مما لو تراضوا عليه دون قرعة لجاز.
وأما حديث الأعبد فلا يصحّ التراضي في الحرية ولا الرضا ؛ لأن العبودية والرق إنما ثبتت بالحكم دون قرعة فجازت ، ولا طريق للتراضى فيها ، وهذا ضعيف ؛ فإنّ القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفى عند التشاحّ (٥) فأما ما يخرجه التراضي فيه فباب آخر ، ولا يصحّ لأحد أن يقول : إنّ القرعة تجرى في موضع التراضي ، وإنها لا تكون أبدا مع
__________________
(١) ابن كثير (١ ـ ٣٦٣).
(٢) في القرطبي : فهو حاضنها.
(٣) عال : ارتفع.
(٤) هكذا بالأصل.
(٥) تشاح الخصمان : أراد كل منهما أن يكون هو الغالب.