الثاني ـ أنّ (١) عصابة من اليهود جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فقالوا له : يا أبا القاسم ؛ أخبرنا أىّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أنّ إسرائيل مرض مرضا شديدا طال سقمه فيه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه ، وكان أحبّ الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها؟ فقالوا : اللهم نعم. قال : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم أنّ الله سبحانه أنزل تحريم ذلك فيها. رواه الطبري.
الثالث ـ أنها نزلت في نفر من اليهود جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم برجل وامرأة زنيا ، فرجمهما النبىّ صلّى الله عليه وسلّم على ما يأتى بيانه في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.
فأما نزولها في رجم اليهود فيأباه ظاهر اللفظ ، وأما سائرها فمحتمل ، والله أعلم.
المسألة الثانية ـ اختلفوا في تحريم إسرائيل على نفسه ؛ فقيل : كان بإذن الله تعالى.
وقيل : كان باجتهاد ، وذلك مبنيّ على جواز اجتهاد الأنبياء ؛ وقد بيّناه في موضعه.
واختلف في تحريم اليهود ذلك ؛ فقيل : إنّ إسرائيل حرّمها على نفسه وعليهم.
وقيل : اقتدوا به في تحريم ذلك ، فحرّم الله تعالى عليهم بغيهم ، ونزلت به التوراة ، وذلك في قوله تعالى (٢) : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ).
والصحيح أنّ للنبي أن يجتهد ؛ وإذا أدّاه اجتهاده إلى شيء كان دينا يلزم اتّباعه لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك ، وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه ، كذلك يؤذن له ويجتهد ، ويتعيّن موجب اجتهاده إذا قدر عليه.
والظاهر من الآية ـ مع أنّ الله سبحانه أضاف التحريم إليه بقوله إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة ـ أنّ الله سبحانه أذن له في تحريم ما شاء ، ولو لا تقدّم الإذن له ما تسوّر (٣) على التحليل والتحريم ، وتقدم ما يقتضى ذلك على القول بجواز الاجتهاد فحرّمه مجتهدا فأقرّه الله سبحانه عليه.
وقد حرّم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم العسل على الرواية الصحيحة أو جاريته مارية فلم يقر الله تحريمه ، ونزل قوله تعالى (٤) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ). وكان ذلك
__________________
(١) ابن كثير : ١ ـ ٣٨١
(٢) سورة النساء ، آية : ١٦٠
(٣) تسور : هجم.
(٤) سورة التحريم ، آية : ١