وقد قال بعض علمائنا : إن معنى قوله هنا : «من الفطرة» يعنى من السنّة ، وأنا أقول : إنها من الملّة. وقد روى أن إبراهيم ابتلى بها فرضا ، وهي لنا سنّة ، والذي يصحّ أن إبراهيم عليه السلام ابتلى بها تكليفا غير معيّن من الفرض أو الندب في جميعها أو انقسام الحال فيها.
وقد اتفقت الأمة على أنها من الملّة ، واختلفوا في مراتبها ؛ فأما قصّ الشارب وإعفاء اللحية فمخالفة للأعاجم ؛ فإنهم يقصّون لحاهم ، ويوفّرون شواربهم ، أو يوفرونهما معا ، وذلك عكس الجمال (١) والنظافة. وأما السواك والمضمضة والاستنشاق فلتنظيف الفم من الطعام والقلح (٢). وأما قصّ الأظفار فلتنزيه الطعام عما يلتئم من الوسخ فيها والأقذار. وأما غسل البراجم فلما يجتمع من الأوساخ [٢١] في غضونها. وحلق العانة ونتف الإبط تنظيفا عما يتلبّد من الوسخ فيهما على شعرهما ومما يجتمع من الرّحض (٣) فيهما ، والاستنجاء لتنظيف ذلك المحلّ وتطييبه عن الأذى والأدواء. وأما الختان فلنظافة القلفة (٤) عمّا يجتمع من أذى البول فيها ، ولم يختتن أحد قبل إبراهيم عليه السلام ؛ ثبت في الصحيح أنه اختتن بالقدوم وهو ابن مائة (٥) وعشرين سنة.
وقد اختلف العلماء فيه ، فرأى الشافعى (٦) أنه سنّة لما قرن به من إخوته في هذا الحديث ، ورأى مالك (٧) أنه فرض ؛ لأنه تكشف له العورة ولا يباح الحرام (٨) إلا الواجب ، وقد مهّدناه في مسائل الخلاف ، فلما أتم إبراهيم عليه السلام هذه الوظائف أثنى الله سبحانه عليه ، فقال (٩) : وإبراهيم الّذى وفي.
سمعت بعض العلماء يقول : وإبراهيم الذي وفى بماله للضّيفان ، وببدنه للنيران ، وبقلبه للرحمن.
الآية الموفية عشرين ـ قوله تعالى (١٠) : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً).
__________________
(١) في ا : الكمال.
(٢) القلح : صفرة الأسنان.
(٣) الرحض : العرق ، وفي ا : الرمص ، وأصله الوسخ الأبيض يجتمع في الموق.
(٤) القلفة : جلدة الذكر.
(٥) في صحيح مسلم : ١٨٣٩ : وهو ابن ثمانين سنة. والمثبت والموطأ أيضا. والقدوم بالتخفيف : آلة النجار المعروفة. ويروى القدوم مشددا : وهو موضع.
(٦) في م : مالك.
(٧) في م : الشافعى.
(٨) في ا : الحريم ، وهو خطأ مطبعى.
(٩) سورة النجم ، آية ٣٧.
(١٠) الآية الخامسة والعشرون بعد المائة.
(٤ / ١ ـ أحكام)