(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٤٣)
____________________________________
كلهم من اليهود وقيل هم المشركون ولم يقولوه كراهة للتحويل إلى مكة بل طعنا فى الدين فإنهم كانوا يقولون رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها وليرجعن إلى دينهم أيضا وقيل هم القادحون فى التحويل منهم جميعا فيكون قوله تعالى (مِنَ النَّاسِ) أى الكفرة لبيان أن ذلك القول المحكى لم يصدر عن كل فرد فرد من تلك الطوائف الثلاث بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض فى فنون الفساد وهو الأظهر إذ لو أريد بهم طائفة مخصوصة منهم لما كان لبيان كونهم من الناس مزيد فائدة وتخصيص سفهائهم بالذكر لا يقتضى تسليم الباقين للتحويل وارتضاءهم إياه بل عدم التفوه بالقدح مطلقا أو بالعبارة المحكية (ما وَلَّاهُمْ) أى أى شىء صرفهم والاستفهام للإنكار والنفى (عَنْ قِبْلَتِهِمُ) القبلة فعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة وهى الحال التى يقابل الشىء غيره عليها كالجلسة للحالة التى يقع عليها الجلوس يقال لا قبلة له ولا دبرة إذا لم يهتد لجهة أمره غلبت على الجهة التى يستقبلها الإنسان فى الصلاة والمراد بها ههنا بيت المقدس وإضافتها إلى ضمير المسلمين ووصفها بقوله تعالى (الَّتِي كانُوا عَلَيْها) أى ثابتين مستمرين على التوجه إليها ومراعاتها واعتقاد حقيتها لتأكيد الإنكار فإن الاختصاص بالشىء والاستمرار عليه باعتقاد حقيته مما ينافى الانصراف عنه فإن أريد بالقائلين اليهود فمدار الإنكار كراهتهم للتحويل عنها وزعمهم أنه خطأ وإن أريد بهم المشركون فمداره مجرد القصد إلى الطعن فى الدين والقدح فى أحكامه وإظهار أن كلا من التوجه إليها والانصراف عنها واقع بغير داع إليه لا لكراهتهم الانصراف عنها أو التوجه إلى مكة وتعليق الإنكار بما يوليهم عنها لا بما يوجههم إلى غيرها مع تلازمهما فى الوجود لما أن ترك الدين القديم أبعد عند العقول وإنكار سببه أدخل لا للإيذان بأن المنكرين هم اليهود بناء على أن المنكر عندهم هو التحويل عن خصوصية بيت المقدس الذى هو القبلة الحقة عندهم لا التوجه إلى خصوصية قبلة أخرى أو هم المشركون بناء على أن المنكر عندهم ترك القبلة القديمة على وجه الطعن والقدح لا التوجه إلى الكعبة لأنه الحق عندهم فإنه بمعزل عن ذلك كيف لا والمنافقون من أحد الفريقين لا محالة والإخبار بذلك قبل الوقوع مع كونه من دلائل النبوة حيث وقع كما أخبر لتوطين النفوس وإعداد ما يبكتهم فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد والجواب العتيد لثغب الخصم الألد أرد وقوله عزوجل (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا أقول عند ذلك فقيل قل الخ أى لله تعالى ناحيتا الأرض أى الجهات كلها ملكا وملكا وتصرفا فلا اختصاص لناحية منها لذاتها بكونها قبلة بدون ما عداها بل إنما هو بأمر الله سبحانه ومشيئته (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أن يهديه مشيئة تابعة للحكم الخفية التى لا يعلمها إلا هو (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) موصل إلى سعادة الدارين وقد هدانا إلى ذلك حيث أمرنا بالتوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المقارنة لحكم أبية ومصالح خفية (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ) توجيه للخطاب إلى المؤمنين