(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢٨)
____________________________________
من أهل المشاهدة والعيان قصدا إلى بيان كمال سوء حالهم وبلوغها من الشناعة والفظاعة إلى حيث لا يختص استغرابها براءدون راء ممن اعتاد مشاهدة الأمور العجيبة بل كل من يتأتى منه الرؤية يتعجب من هولها وفظاعتها وجواب لو محذوف ثقة بظهوره وإنذانا بقصور العبارة عن تفصيله وكذا مفعول ترى لدلالة ما فى حيز الظرف عليه أى لو تراهم حين يوقفون على النار حتى يعاينوها لرأيت ما لا يسعه التعبير وصيغة الماضى للدلالة على التحقق أو حين يطلعون عليها اطلاعا وهى تحتهم أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها من قولهم وقفته على كذا إذا فهمته وعرفته وقرىء وقفوا على البناء للفاعل من وقف عليه وقوفا (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ) أى إلى الدنيا تمنيا للرجوع والخلاص وهيهات ولات حين مناص (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) * أى بآياته الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها إذ هى التى تخطر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا فى حقها أو بجميع آياته المنتظمة لتلك الآيات انتظاما أوليا (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بها العاملين* بمقتضاها حتى لا نرى هذا الموقف الهائل أو نكون من فريق المؤمنين الناجين من العذاب الفائزين بحسن المآب ونصب الفعلين على جواب التمنى بإضمار أن بعد الواو وإجرائها مجرى الفاء ويؤيده قراءة ابن مسعود وابن إسحق فلا نكذب والمعنى إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين وقيل ينسبك من أن المصدرية ومن الفعل بعدها مصدر ويقدر قبله مصدر متوهم فيعطف هذا عليه كأنه قيل ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين وقرىء برفعهما على أنه كلام مستأنف كقوله دعنى ولا أعود أى وأنا لا أعود تركتنى أو لم تتركنى أو عطف على نرد أو حال من ضميره فيكون داخلا فى حكم التمنى كالوجه الأخير للنصب وتعلق التكذيب الآتى به لما تضمنه من العدة بالإيمان وعدم التكذيب كمن قال ليتنى رزقت ما لا فأكافئك على صنيعك فإنه متمن فى معنى الواعد فلو رزق ما لا ولم يكافىء صاحبه يكون مكذبا لا محالة وقرىء برفع الأول ونصب الثانى وقد مر وجههما (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) إضراب عما ينبىء عنه التمنى من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أى ليس ذلك عن عزيمة صادقة ناشئة عن رغبة فى الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به بل لأنه ظهر لهم فى موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه فى الدنيا من الداهية الدهياء وظنوا أنهم مواقعوها فلخوفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا والمراد بها النار التى وقفوا عليها إذ هى التى سيق الكلام لتهويل أمرها والتعجيب من فظاعة حال الموقوفين عليها وبإخفائها تكذيبهم بها فإن التكذيب بالشىء كفر به وإخفاء له لا محالة وإيثاره على صريح التكذيب الوارد فى قوله عزوجل (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) وقوله تعالى (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) مع كونه أنسب بما قبله من قولهم ولا نكذب بآيات ربنا لمراعاة ما فى مقابلته من البدو هذا هو الذى تستدعيه جزالة النظم الكريم وأما ما قيل من أن المراد بما يخفون كفرهم ومعاصيهم أو قبائحهم وفضائحهم التى كانوا يكتمونها من الناس فتظهر فى صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم أو شركهم الذى يجحدون به فى بعض مواقف القيامة بقولهم والله ربنا ما كنا مشركين ثم يظهر بما ذكر من شهادة الجوارح عليهم أو ما أخفاه رؤساء