(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢)
____________________________________
فإن إخلاف الميعاد مما لا يكاد يصدر عن كرام الخلق مع إمكان صدوره عنهم فكيف بجناب الخلاق الغنى عن العالمين جل جلاله وسبك التركيب وإن كان على إنكار أن يكون أحد أوفى بالعهد منه تعالى من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها لكن المقصود به قصدا مطردا إنكار المساواة ونفيها قطعا فإذا قيل من أكرم من فلان أولا أفضل منه فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل* (فَاسْتَبْشِرُوا) التفات إلى الخطاب تشريفا لهم على تشريف وزيادة لسرورهم على سرور والاستبشار إظهار السرور والسين فيه ليس للطلب كاستوقد وأوقد والفاء لترتيب الاستبشار أو الأمر به على ما قبله أى* فإذا كان كذلك فسروا نهاية السرور وافرحوا غاية الفرح بما فزتم به من الجنة وإنما قيل (بِبَيْعِكُمُ) مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة لأن المراد ترغيبهم فى الجهاد الذى عبر عنه بالبيع وإنما لم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبل الله سبحانه لا من قبلهم والترغيب إنما يكون فيما يتم من قبلهم* وقوله تعالى (الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بكونه مغايرا لسائر البياعات فإنه بيع للفانى بالباقى ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى. عن الحسن رضى الله عنه أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها. روى أن الأنصار لما بايعوه صلىاللهعليهوسلم على العقبة قال عبد الله بن رواحة رضى الله تعالى عنه اشترط لربك ولنفسك ماشئت قال صلىاللهعليهوسلم أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم قال فإذا فعلنا ذلك فمالنا قال لكم الجنة قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيله ومر برسول الله صلىاللهعليهوسلم أعرابى وهو يقرؤها قال كلام من قال كلام الله عزوجل قال بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله* فخرج إلى الغزو واستشهد (وَذلِكَ) أى الجنة التى جعلت ثمنا بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذى لا فوز أعظم منه وما فى ذلك من معنى البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار إليه وسمو رتبته فى الكمال ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البيع الذى أمروا بالاستبشار به ويجعل ذلك كأنه نفس الفوز العظيم أو يجعل فوزا فى نفسه فالجملة على الأول تذييل للآية الكريمة وعلى الثانى لقوله تعالى (فَاسْتَبْشِرُوا) مقرر لمضمونه (التَّائِبُونَ) رفع على المدح أى هم التائبون يعنى المؤمنين المذكورين كما يدل عليه القراءة بالياء نصبا على المدح ويجوز أن يكون مجرورا على أنه صفة للمؤمنين وقد جوز الرفع على الابتداء والخبر محذوف أى التائبون من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ويجوز* أن يكون خبره قوله تعالى (الْعابِدُونَ) وما بعده خبر بعد خبر أى التائبون من الكفر على الحقيقة هم* الجامعون لهذه النعوت الفاضلة أى المخلصون فى عبادة الله تعالى (الْحامِدُونَ) لنعمائه أو لما نابهم من السراء* والضراء (السَّائِحُونَ) الصائمون لقوله صلىاللهعليهوسلم سياحة أمتى الصوم شبه بها لأنه عائق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوسل بها إلى العثور على خفايا الملك والملكوت وقيل هم السائحون فى الجهاد وطلب