(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٣)
____________________________________
مع ما وصف من أحوالهم الموجبة للتدمير (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ) الله تعالى مفلتين بأنفسهم من أخذه* لو أراد ذلك (فِي الْأَرْضِ) مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) * ينصرونهم من بأسه ولكن أخر ذلك لحكمة تقتضيه والجمع إما باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل وما كان لأحد منهم من ولى أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بيانا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) استئناف يتضمن حكمة تأخير المؤاخذة وقرأ* ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالتشديد (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) لفرط تصامهم عن الحق وبغضهم* له كأنهم لا يقدرون على السمع ولما كان قبح حالهم فى عدم إذعانهم للقرآن الذى طريق تلقيه السمع أشد منه فى عدم قبولهم لسائر الآيات المنوطة بالأبصار بالغ فى نفى الأول عنهم حيث نفى عنهم الاستطاعة واكتفى فى الثانى بنفى الإبصار فقال تعالى (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) لتعاميهم عن آيات الله المبسوطة فى* الأنفس والآفاق وهو استئناف وقع تعليلا لمضاعفة العذاب وقيل هو بيان لما نفى من ولاية الآلهة فإن مالا يسمع ولا يبصر بمعزل من الولاية وقوله تعالى (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) اعتراض وسط بينهما نعيا عليهم من أول الأمر سوء العاقبة (أُولئِكَ) المنعوتون بما ذكر من القبائح (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله عز سلطانه (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة وشفاعتها أو خسروا* ما بذلوا وضاع عنهم ما حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة (لا جَرَمَ) فيه ثلاثة أوجه الأول أن لا نافية لما سبق وجرم فعل بمعنى حق وأن مع ما فى حيزه فاعله والمعنى لا ينفعهم ذلك الفعل حق (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) وهذا مذهب سيبويه والثانى جرم بمعنى كسب وما بعده مفعوله وفاعله ما دل عليه الكلام أى كسب ذلك خسرانهم فالمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور خسرانهم والثالث أن لا جرم بمعنى لا بد أى لا بد أنهم فى الآخرة هم الأخسرون وأيا ما كان فمعناه أنهم أخسر من كل خاسر فتبين أنهم أظلم من كل ظالم وهذه الآيات الكريمة كما ترى مقررة لما سبق من إنكار المماثلة بين من كان على بينة من ربه وبين من كان يريد الحياة الدنيا أبلغ تقرير فإنهم حيث كانوا أظلم من كل ظالم وأخسر من كل خاسر لم يتصور مماثلة بينهم وبين أحد من الظلمة الأخسرين فما ظنك بالمماثلة بينهم وبين من هو فى أعلى مدارج الكمال ولما ذكر فريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم ومآلهم شرع فى بيان حال أضدادهم أعنى فريق المؤمنين وما يئول إليه أمرهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسنهم المذكورة فى قوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا فقيل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أى بكل ما يجب أن يؤمن