(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٨)
____________________________________
قيل من استقلاله بغرض مهم هو جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم فى الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين قياسا على ما وقع فى قصة البقرة من تقديم ذكر الأمر بذبحها على ذكر القتيل الذى هو أول القصة وكان حقها أن يقال وإذ قتلتم نفسا فادار أتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة فاضربوه ببعضها كما قرر فى موضعه فإن تغيير الترتيب هناك للدلالة على كمال سوء حال اليهود بتعديد جناياتهم المتنوعة وتثنية التقريع عليهم بكل نوع على حدة فقوله تعالى (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) الخ لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك وقوله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) الخ للتقريع على قتل النفس المحرمة وما يتبعه من الأمور العظيمة ولو قصت القصة على ترتيبها لفات الغرض الذى هو تثنية التقريع ولظن أن المجموع تقريع واحد وأما ما نحن فيه فليس مما يمكن أن يراعى فيه مثل تلك النكتة أصلا وما ذكر من جعل القرابة الدينية غامرة للقرابة النسبية الخ لا يفوت على تقدير سوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا بل لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لذكر ما مر من الجواب المستدعى لذكر ما مر من توبته عليه الصلاة والسلام المؤدى ذكرها إلى ذكر قبولها فى ضمن الأمر الوارد بنزوله عليه الصلاة والسلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما سيجىء مفصلا ولا ريب فى أن هذه المعانى آخذ بعضها بحجزة بعض بحيث لا يكاد يفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة ولا ريب أن ذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وذلك إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ وفيه فائدة أخرى هى التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء الثانى عقيب قوله تعالى (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد قوله (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أنه ينجو بدعائه عليه الصلاة والسلام فنص على هلاكه من أول الأمر ثم ذكر الأمر الوارد على الأرض والسماء الذى هو عبارة عن تعلق الإرادة الربانية الأزلية بما ذكر من الغيض والإقلاع وبين بلوغ أمر الله محله وجريان قضائه ونفوذ حكمه عليهم بهلاك من هلك ونجاة من نجا بتمام ذلك الطوفان واستواء الفلك على الجودى فقصت القصة إلى هذه المرتبة وبين ذلك أى بيان ثم تعرض لما وقع فى تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليهالسلام وبين رب العزة جلت حكمته فذكر بعد توبته عليه الصلاة والسلام قبولها بقوله (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ) أى انزل من الفلك وقرىء بضم الباء (بِسَلامٍ) ملتبسا* بسلامة من المكاره كائنة (مِنَّا) أو بسلام وتحية منا عليك كما قال سلام على نوح فى العالمين (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) أى خيرات نامية فى نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق وقرىء بركة وهذا إعلام وبشارة من الله تعالى بقبول توبته وخلاصه من الخسران بفيضان أنواع الخيرات عليه فى كل