وقد أوضح جل شأنه الفرق بين الجاذبية السماوية العامة ، وبين الجاذبية الأرضية ، ولا يمكن أن يصل إلى لطائف الإشارات ، ودقائق المعاني إلا أرباب الفصاحة والبيان. والذي يتأمل قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١) وقوله : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٢).
ففي قوله تعالى (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) في خلق السماء ورفعها لطيفة علمية دقيقة إذ أنه لو قال (بغير عمد) فحسب ، لكان
هذا نفيا مطلقا للعمد ، مرئية وغير مرئية ، والنفي المطلق يخالف الواقع الذي علم الله أنه سيهدي إليه خلقه وعباده بعد حين ، فكان من الإعجاز الدقيق أن يقيد الله نفي العمد في الخلق والرفع بقوله (ترونها) والضمير المنصوب في (ترونها) يرجع أولا إلى أقرب مذكور وهو (عمد) فيكون المعنى (بغير عمد مرئية) أو (بعمد غير مرئية) أي بعمد من فطرتها وتكوينها ألا ترى للنظر (٣).
لكن الضمير إذا أعيد إلى السماء كان المعنى أن السماء ترونها مخلوقة مرفوعة بغير عمد ، وتكون العمد هي ما يعهده الناس في أبنية الأرض ، كما أن نفيها بهذا المعنى عن السماء المرفوعة أيضا أمر عجيب لا يقدر عليه إلا الله ، وكلا الوجهين مفهوم من التعبير القرآني ، وإن كان الأولى في اللغة هو الوجه الأول الذي يحوي الإعجاز العلمي ، إذن فالوجهان
__________________
(١) لقمان (٣١ / ١٠).
(٢) الرعد (١٣ / ٢).
(٣) السابق ص ٣٦٧ بتصرف وزيادة. والمعروف أن الفعل المضارع في اللغة العربية يشمل الحال والمستقبل ، أو هو حال مستمر ، لأن البشر أجمعين مخاطبون به في كل عصر ومصر.