(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) (١٣)
____________________________________
(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتحقيق حقية القرآن العظيم الذى ذكر فى صدر السورة الكريمة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته واستهزاؤهم به وتسميتهم تارة سحرا وتارة أضغاث أحلام وأخرى مفترى وشعرا وبيان علو رتيته إثر تحقيق رسالته صلىاللهعليهوسلم ببيان أنه كسائر الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام قد صدر بالتوكيد القسمى إظهارا لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذانا بكون المخاطبين فى أقصى مراتب النكير* أى والله لقد أنزلنا إليكم يا معشر قريش (كِتاباً) عظيم الشأن نير البرهان وقوله تعالى (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) صفة لكتابا مؤكدة لما أفاده التنكير التفخيمى من كونه جليل المقدار بأنه جميل الآثار مستجلب لهم منافع جليلة أى فيه شرفكم وصيتكم كقوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقيل ما تحتاجون إليه فى أمور دينكم ودنياكم وقيل ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاق وقيل فيه موعظتكم وهو الأنسب بسباق* النظم الكريم وسياقه فإن قوله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إنكار توبيخى فيه بعث لهم على التدبر فى أمر الكتاب والتأمل فيما فى تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر التى من جملتها القوارع السابقة واللاحقة والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الأمر كذلك أو لا تعقلون شيئا من الأشياء التى من جملتها ما ذكر وقوله تعالى (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) نوع تفصيل لإجمال قوله تعالى (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) وبيان لكيفية إهلاكهم وسببه وتنبيه على كثرتهم وكم خبرية مفيدة للتكثير محلها النصب على أنها مفعول لقصمنا ومن قرية تمييز وفى لفظ القصم الذى هو عبارة عن الكسر بإبانة أجزاء المكسور وإزالة تأليفها بالكلية من الدلالة على قوة الغضب وشدة السخط مالا يخفى وقوله تعالى (كانَتْ ظالِمَةً) فى محل الجر على أنها صفة لقرية بتقدير مضاف ينبىء عنه الضمير الآتى أى وكثيرا قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين بآيات الله تعالى كافرين بها كدأبكم (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها) أى بعد إهلاكها (قَوْماً آخَرِينَ) أى ليسوا منهم نسبا ولا دينا ففيه تنبيه على استئصال الأولين وقطع دابرهم بالكلية وهو السر فى تقديم حكاية إنشاء هؤلاء على حكاية مبادى إهلاك أولئك بقوله تعالى (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أى أدركوا عذابنا الشديد إدراكا تاما كأنه إدراك المشاهد المحسوس (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) يهربون مسرعين راكضين دوابهم أو مشبهين بهم فى فرط الإسراع (لا تَرْكُضُوا) أى قيل لهم بلسان الحال أو بلسان المقال من الملك أو ممن ثمة من المؤمنين بطريق الاستهزاء والتوبيخ لا تركضوا (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة (وَمَساكِنِكُمْ) التى كنتم تفتخرون بها (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير فى المهمات