ويؤكد القرآن القضية في موقف حاسم ، أن السحر فصيلة من فصائل الكفر الذي إذا لم يتصل بالجانب العقيدي في دائرة الفكر الكافر والمؤمن ، فإنه يتصل بالجانب العملي الذي يقترب من الكفر بمدلوله ولوازمه ، وهذا ما يرتفع عنه المستوى الروحي الإيماني لسليمان ، فليس له أية علاقة به من قريب أو من بعيد ، لأنه لم يتحرك في ملكه من موقع التحكّم بالناس واللعب عليهم ، بل انطلق فيه من قاعدة الحكم العدل والإيمان الفصل المرتبط بالله ، ولكن الشياطين هم الذين مارسوا الكفر في السحر ، فأضلوا الناس وأفسدوا حياتهم ، عند ما انطلقوا يعلّمون الناس السحر ، ليثيروا الخلافات والمنازعات ، ويؤججوا نار العداوة والبغضاء من خلاله.
* * *
هاروت وماروت وتعليم السحر
وينطلق الحديث ليربطنا ـ في السحر ـ برافد آخر هو : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) ، هذان اللذان كانا يعلّمان الناس السحر للمعرفة والثقافة ودفع الضرر ، لا لاستلام زمام المبادرة العملي فيه ، ولهذا كانا يرشدان الإنسان الذي يتعلم منهما إلى أنهما فتنة للناس وامتحان لهم على الانضباط والالتزام الديني في عدم الإضرار من موقع القدرة والمعرفة لا من موقع العجز ، لأن هناك فرقا بين أن تلتزم بترك الشيء لأنك لا تعرف حدوده وقواعده التي تملك من خلالها إمكانية التصرف ، وبين أن تتركه وأنت تعرف كيف تتلاعب به وتوجهه الوجهة التي تريدها في طريق الخير والشرّ ، ولكن الناس ـ ومنهم اليهود ـ لا ينجحون في الامتحان غالبا ، فيوجّهون المعرفة التي يكسبونها في طريق الإضرار بالناس (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) والظاهر أن المراد من ذلك ما يستعمل لهذا الهدف ، لا ما يحدث منه