(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فقد هيأ الله لكم طيبات الطعام من كل الأصناف الشهية مما أحله لكم ، ودعاكم إلى التمتع بها ، لأن الله لا يريد لكم حرمان أنفسكم منها ، فليست القيمة في الحياة أن تجرعوا أو تظمأوا أو تلبسوا اللباس الخشن ... في ذاتية الجوع والظمأ والخشونة ، بل القيمة هي الإرادة الإنسانية القوية الواعية التي يملك الإنسان فيها نفسه في مواقع السلب أو الإيجاب ، بحيث لا يكون عبد الطيبات والملذات ، بل يكون سيّدها من حيث هو سيد نفسه في قوة إرادته.
(وَما ظَلَمُونا) في انحرافهم عن خط الإيمان والعمل الصالح ، بالمعنى الذي توحي به كلمة الظلم من النتائج السيئة التي تصيب المظلوم من تصرفات الظالم ، لأن الله هو الغني بذاته الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه أو إيمان من آمن به ، ولا تضره معصية من عصاه أو كفر من كفر به ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لأن الكفر والانحراف يمثلان خطين من الخطوط المنحرفة عن القيمة الكبرى التي ترتفع بالإنسان إلى الدرجات العليا في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة ، مما يؤدي إلى الهلاك العاجل والآجل معا.
* * *
إنزال الرجز على الفاسقين
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) والظاهر أن المراد بيت المقدس الذي أريد له أن يكون المستقر الذي تتحرك فيه الرسالة من موقع القوة بعد خروج موسى من مصر ، باعتبار أن وجود قاعدة الانطلاق في أيّ مشروع رساليّ عام ، أمر ضروري في موازين القوى في ساحة الصراع بين الحق والباطل في واقع الحياة العامة ، (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) من خلال القوة القاهرة التي تملكونها في سيطرتكم على مواقع الجبارين الذين يستضعفون الناس ويبغون في الأرض