والرعاية؟ والجواب : لعلّ رسالة موسى كانت أولى الرسالات المتحركة في نطاق جمهورها ، الذي عملت من أجله على صعيد الرسالة وعلى صعيد الواقع ، فنحن نلاحظ أن الرسالات السابقة كرسالة نوح وإبراهيم عليهالسلام ، لا تشعرنا بوجود المؤمنين كقوّة تتحرك مع النبي في صراعه ، أو يتحرك معها النبي في خطواته العملية ، بل كان الصراع وحده يتجه إلى الجو الذي يعيش فيه النبي مع الخصوم الرئيسيين للرسالة. ففي إطار رسالة نوح ، لا نشعر بالمؤمنين إلا من خلال وصف الكفار لهم بأنهم (أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود : ٢٧] ، ثم لا نجد لهم أيّة حركة ، بل نجد نوحا يواجه كل التحديات كما لو كان وحده. وفي نطاق رسالة إبراهيم ، كان يواجه الكفار وحده ، وكان يواجه طاغية زمانه وحده ... وكانت القضية كلها هي قضية الإيمان والكفر في إطارهما العقيدي ، في حدود المعلومات التي حدّثنا القرآن عنها في شؤون الرسالتين.
أمّا موسى ، فقد كان يحمل قضية العقيدة في صراع الإيمان والكفر ، ويحمل قضية الاضطهاد الذي يعانيه هذا الشعب من حكم فرعون ، وبهذا كانت الرسالة تتحرك في اتجاهين : في صراع الإيمان ضد الكفر ، وفي صراع العدل ضد الظلم ، وبهذا كان للرسالة جمهورها المتحرك ، ولكن هذا الجمهور الذي خرج من جوّ الاضطهاد إلى جوّ الحرية بفضل الرسالة والرسول ، لم يكن في مستوى الرسالة ، فقد كان يناصر الرسول على أساس قضيته الحياتية المباشرة ، لا على أساس قضية الرسالة ، ولهذا كان لا بد للرسالة من الاحتفاظ بجمهورها أو بمقدار منه ، فتمنحه مقدارا كبيرا من الأجواء الهادئة الواسعة التي يتنفس فيها روح الرسالة ـ حياتها وأهدافها ـ ويشعر بأن الأجواء الجديدة هي أجواء الرحمة والرعاية حتى مع أشدّ التحديات قساوة وضراوة. ولعل التجربة كانت ناجحة ، لأننا رأينا انفصال مقدار كبير من الجمهور عن الخط المنحرف إلى الخط المستقيم ، كما نجد ذلك في الآيات القرآنية المقبلة إن شاء الله.