لنعتبرها قربانا له ، وليس المقام مقام دعوة للإطعام لنقدم لحمها للآكلين الفقراء ، وليس هناك شيء آخر يدخل في دائرة التصور الواقعي المعقول.
وكان جواب موسى في مستوى المدلول السيئ لردود قومه عليه ، ولذا جاء جوابه زاخرا بالمرارة (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، فقد استعاذ بالله أن يكون من الجاهلين ، لأن مثل هذا التصرف ـ على حسب مفهومهم الخاطئ ـ يجعل موسى في موقف الجاهل الذي لا يعرف كيف يتصرف وأين يضع كلماته ، ولا يعقل مركز النبوّة ومنطلقاتها العملية ، كما أنه لا يمكن أن يحدثهم عن الله بما لم ينزله عليه ، ومما لم يأمرهم به ، لأن ذلك يعتبر خيانة من الرسول وكذبا على الله ، وكيف يمكن أن يسخر موسى ـ النبي ـ بالناس الذين جاء لهدايتهم وربطهم بالجانب الجدي في مواقع المسؤولية في الحياة ، لا سيما إذا كانت المسألة مرتبطة بالعمل الذي يكلفهم الكثير من الجهد والمال والتعقيدات الاجتماعية.
* * *
سؤالهم عن حقيقة البقرة
وعادوا من جديد إلى المشاغبة ، ولكن من موقع اتهامه بأنه يحمل أمرا مبهما لا وضوح فيه ، فسألوه عن حقيقة البقرة ، وقد كان بإمكانهم أن يأخذوا بإطلاق الكلمة في مقام البيان ـ كما يقول الأصوليون ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ). وبدأ الموقف يتجه اتجاها آخر يشبه العقوبة ومواجهة التحدي بمثله ، فتحوّل الجواب إلى التضييق عليهم بفرض قيود لم تكن داخلة في حساب التشريع في ذاته ... (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) إنها بقرة لا هرمة ، (وَلا بِكْرٌ) صغيرة ، (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) وسط بين ذلك ، وهي أقوى ما يكون ، (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) واستجيبوا لهذا الأمر الإلهي في حدوده الجديدة ،