المباشرة التي تستند إليها الأشياء ، ولكنهم كانوا يتساءلون عن السبب الأول الذي أعطى للأشياء المباشرة قوّة السببية ، فلم تكن القضية لديهم منطلقة من مشاهدات ساذجة ، أو حالات جهل بسيط ، أو انفعالات طارئة ، بل انطلقت من دراسة فكرية عميقة وتأملات ذاتية دقيقة.
٣ ـ أما الناحية الثالثة ، وهي أسلوب القرآن في معالجة الإيمان ، فإننا نجد القرآن الكريم في حديثه عن ظواهر الكون ، ينسب الفعل إلى الله ، ولا يغفل دور الإنسان في النسبة في ما يتعلق بالأفعال التي تتصل بإرادته بشكل مباشر ، وذلك بالتعبير نفسه ، كما في قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦] فقد أسند العمل إلينا بالأسلوب نفسه الذي أسند فيه الخلق إلى ذاته المقدسة ، فنحن الذين قمنا بالعمل ، وبذلك صحت نسبة العمل إلينا ، أما نسبته إلى الله فلأنه أعطانا الحياة والقوة والأدوات التي يحتاجها العمل ، ومنحنا الإرادة التي تتحرك نحو العمل بشكل مباشر ، للإيحاء بأنه السبب الأعمق الذي تنتهي إليه الأشياء في سلسلة الأسباب ، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ١٧] ، فهو ينفي عن الإنسان استقلاله بالفعل بالمستوى الذي يرجع إليه كل شيء ، ولا ينفي عنه قيامة بالفعل ، وهكذا تتنوع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الأفعال والظواهر الطبيعية في الكون ، وفي حركة الحياة والإنسان ، ليتحدث بأسلوب واحد عن السبب المباشر والأعمق الذي يوحي للإنسان بالمنهج الحق للمعرفة التي تواجه الأسباب المباشرة التي تعطينا الأسس للنظام الكوني ، وتربطنا بالله في النطاق الغيبي لوجوده.
* * *