وفي هذا الجو ، يمكننا أن نؤكّد ثانيا إرادة المعنى الثاني ، لأن ذلك ما نفهمه من كلمة (السِّلْمِ) التي تعني الوفاق الاجتماعي الذي يبتعد عن جو الصراع والخلاف والقتال ، فكأن الآية تدعو إلى الدخول في أجواء السلم التي تلتقي بالوقوف على الخط الواحد الذي تجتمع عليه الأمة بعيدا عما يفرّقها ويوزّعها أشتاتا متنازعة مختلفة ، تماما كما هو جو الآية الكريمة : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران : ١٠٣].
ثم نلاحظ التركيز في أكثر من آية من آيات القرآن على التحدث عن الأمم السابقة التي جاءها العلم ، ولكنها اختلفت في ما بينها فضلّت وأضلّت ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام : ١٥٩] وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران : ١٠٥] وغيرهما من الآيات التي توحي بالخط القرآني الذي يؤكد على عدم الخلاف بين أبناء الأمة الواحدة في قضايا دينها وحياتها ، ويعمل على أن يجعل من بني إسرائيل النموذج الحي الذي دمرته الفرقة الخاضعة لأهواء التيارات الذاتية والفئوية المدمّرة ؛ وذلك من أجل الحفاظ على سلامة المجتمع الذي يبني له السلم حياته في سائر جوانبها العامة والخاصة ، وهذا ما يدفعنا إلى استيحاء هذا المعنى من الكلمة في نطاق الجو القرآني العام. فإذا أضفنا إلى ذلك انسجامه مع استعمال كلمة السلم في الآيات القرآنية في هذا المعنى ، أمكننا أن نقترب من الاطمئنان للفكرة ، وذلك كما في قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [الأنفال : ٦١] وقوله تعالى : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) [محمد : ٣٥]. ومن خلال ذلك نستوحي انطلاق الآية في هذا الاتجاه الذي هو الشرط الأساسي لسلامة استمرار الخط الإسلامي في الحياة. فعلى المؤمنين أن يعيشوا في أجواء السلم في علاقاتهم ببعضهم البعض ، في المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ، فلا يفسحوا المجال للخصومة