النبوّة والرّسالة
فكانت هاتان الآيتان من أجل أن يضع الله ـ سبحانه ـ الفكرة في موقعها السليم ، ليدفعنا إلى التفكير في بطلان هذا التعلّل ببطلان الأساس الذي يرتكز عليه. (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) فإذا كان الله قد أرسل بشرا بالكتاب الذي يفصّل للناس حقائق الأشياء في شؤون العقيدة والشريعة والحياة ، ليركّز لهم المفاهيم الحقّة على أساس من الوحي ... (وَالْحُكْمَ) وأتاه الحكم ليفصل بين الناس في ما اختلفوا فيه من خلال تطبيق الفكرة على حركة الواقع ، لئلا يضيع الناس في متاهات النظريات بعيدا عن التطبيق ، (وَالنُّبُوَّةَ) وأعطاه النبوّة التي هي سفارة النبي بين الله وبين خلقه من خلال الوحي الذي ينزل عليه ... (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) فلا يمكن أن يرسل الله مثل هذا الإنسان ويختاره من بين عباده ، إلا إذا كان متمتعا بالصفات العظيمة التي تبعده عن كل انحراف في التصور والسلوك ، وواعيا لدوره وموقعه وامتداد خطه الرسالي ، وعظمة الله في نفسه ، وضعة نفسه أمام الله ، وشعوره العميق بالعبودية المطلقة أمام الألوهية المطلقة ؛ لتكون رسالته منطلق خير وصلاح وإصلاح وتأكيد على الحقيقة في كل مجالاتها الفكرية والعملية ... وفي هذا الاتجاه لا يمكن أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه من دون الله ، لأنه يعرف أن قدراته كلها ، مهما كانت عظمتها ، مستمدّة من الله ـ سبحانه ـ فإنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا بالله ؛ ولا يمكن أن يدعوهم إلى اتخاذ الأنبياء الآخرين والملائكة أربابا من دون الله ، لأن ذلك هو الكفر الصريح الذي لا يمكن أن يصدر من النبي الذي تتلخص رسالته في تحويل الناس من الكفر إلى الإسلام ، لا في تحويلهم من الإسلام إلى الكفر.
إن النبي لا يمكن أن يدعو الناس إلى ذلك ، بل لا بد من أن يدعوهم إلى أن يكونوا ربّانيين متألّهين ، يعلمون كتاب الله ويعملون به ويعلّمونه للناس الآخرين ليكون العلم للعقيدة وللعمل وللهداية.