إن الأنبياء لا يفعلون ذلك ، بل لا يفكرون في ذلك ، لأنهم المعصومون عن الخطأ والانحراف من خلال المستوى الأرفع للإيمان والطهارة والعصمة ، مما يجعلهم بشرا يرتفعون بملكاتهم الروحية العملية عن البشر. وهذا ما حدثنا الله به في حوارة مع عيسى عليهالسلام ـ يوم القيامة ـ حول العقيدة التي حملها بعض النصارى في اعتبار عيسى عليهالسلام ربّا ، وفي التعبد لأمه مريم عليهاالسلام ، كما لو كانت في موقع الألوهية ، وذلك هو قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة : ١١٦ ـ ١١٧].
فنحن نلاحظ في هاتين الآيتين ، أن عيسى عليهالسلام يؤكد أن دعوة الناس إلى عبادة ذاته ليس من حقه ، لأنه عبد الله الذي هو ربه وربهم ، وهو لم يفعل ذلك بل كان منطقه منطق الرسول الذي يدعو الناس إلى عبادة الله بمقتضى أمره له بذلك. وهذا هو التعبير الحي عما توحي به هذه الآية ، فلا يمكن لأي نبي أن يتحدث بذلك فيدعو إلى نفسه ، بل إن حديثه أن يقول لهم (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) المنتسبين إلى الرب في انفتاحهم على الإيمان به ، وعلى العلم المستمد من رسالاته ، وعلى الالتزام به بعبادته وتعاليمه من خلال الوعي للحق في كل بنيانهم الفكري والروحي ، وربما أريد من الكلمة أن يكونوا العلماء أو الحكماء أو الفقهاء الذين يربون الناس ويدبرونهم بما فيه صلاح أمرهم من خلال دعوتهم إلى الأخذ برسالة الله في ثقافتهم وفي عملهم وسلوكهم الخاص والعام (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) الذي أنزله الله على رسوله وتبيّنونه للناس وتقدمون لهم حقائقه (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أسراره ومفاهيمه من خلال ما يبينه أمر عيسى أنه عبد الله ورسوله وروح منه وكلمته ألقاها إلى مريم ، وأرسله إلى الناس ليبين لهم ما اختلفوا فيه من الكتاب الذي