باب : أيهما أبلغ .. الشعر أم النثر؟!
أسمعت أفضل من رأيت من أهل العلم بالأدب والحذق بهذه الصناعة ، مع تقدمه في الكلام ، يقول : إن الكلام المنثور يتأتى فيه من الفصاحة والبلاغة ما لا يتأتى في الشعر ، لأن الشعر يضيّق نطاق الكلام ، ويمنع القول من انتهائه ، ويصده عن تصرفه على سننه.
وحضره من يتقدم في صنعة الكلام ، فراجعه في ذلك ، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون الشعر أبلغ إذا صادف شروط الفصاحة. وأبدع إذا تضمن أسباب البلاغة. ويشهد عندي للقول الأخير أن معظم براعة كلام العرب في الشعر. ولا تجد في منثور قولهم ما تجد في منظومه. وإن كان قد أحدثت البراعة في الرسائل على حد لم يعهد في سالف أيام العرب.
ولم ينقل من دواوينهم وأخبارهم. وهو وإن ضيق نطاق القول ، فهو يجمع حواشيه ، ويضم أطرافه ونواحيه. فهو إذا تهذب في بابه ووفى له جميع أسبابه ، لم يقاربه من كلام الآدميين كلام. ولم يعارضه من خطابهم خطاب.
وقد حكي عن المتنبي أنه كان ينظر في المصحف فدخل إليه بعض أصحابه فأنكر نظره فيه لما كان رآه عليه من سوء اعتقاده ، فقال له : هذا المكي على فصاحته كان مفحما. فإذا صحت هذه الحكاية عنه في إلحاده ، عرف بها أنه كان يعتقد أن الفصاحة في قول الشعر أبلغ ، وإذا كانت الفصاحة في قول الشعر أو لم تكن ، وبينا أن نظم القرآن يزيد في فصاحته على كل نظم ، ويتقدم في بلاغته على كل قول ، بما يتضح به الأمر اتضاح الشمس ، ويتبين به بيان الصبح ، وقفت على جلية هذا الشأن. فانظر فيما نعرضه عليك ، ما نعرضه. ونصور بفهمك ما نصوره. ليقع لك موقع عظيم شأن القرآن. وتأمل ما نرتبه ، ينكشف لك الحق ، وإذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك ، فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها ، وصحة نظمها ، وجودة بلاغتها ومعانيها ، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها ، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة ، والمعروفين بالحذق في البراعة ، فنوقفك على مواضع خللها ، وعلى تفاوت نظمها ، وعلى اختلاف فصولها ، وعلى كثرة فضولها ، وعلى شدة تعسفها ، وبعض تكلفها ، وما نجمع من كلام رفيع ، يقرن بينه وبين كلام وضيع ، وبين لفظ سوقي يقرن بلفظ ملوكي ، وغير ذلك من الوجوه التي يجيء تفصيلها ، ونبيّن ترتيبها وتنزيلها.
فأما كلام مسيلمة الكذاب وما زعم أنه قرآن ، فهو أخس من أن نشتغل به ، وأسخف من أن نفكر فيه. وإنما نقلنا منه طرفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر. فإنه على سخافته قد أضل ، وعلى ركاكته قد أذل. وميدان الجهل واسع ، وممن نظر فيما نقلناه عنه ، وفهم