المسألة الثانية عشرة من هذا الأصل
في بيان ما يعلم بالعقل وما لا يعلم إلا بالشرع
قال أصحابنا : إنّ العقول تدل على حدوث العالم وتوحيد صانعه وقدمه وصفاته الأزلية وعلى جواز إرساله الرّسل إلى عباده وعلى جواز تكليفه عباده ما شاء ، وفيها دلالة على صحة جواز حدوث كل ما يصح حدوثه وعلى استحالة كل ما يستحيل كونه. فأما وجوب الأفعال وحظرها وتحريمها على العباد فلا يعرف إلا من طريق الشرع فان أوجب الله عزوجل على عباده شيئا بخطابه إياهم بلا واسطة أو بإرسال رسول إليهم وجب ، وكذلك أن نهاهم عن شيء بلا واسطة أو على لسان رسول حرم عليهم ، وقبل الخطاب والإرسال لا يكون شيء واجبا ولا حراما على أحد ، وكل عاقل فعل فعلا قبل ورود الشرع لا يستحق به ثوابا ولا عقابا فإن استدل العاقل قبل ورود الشرع عليه على حدوث العالم وتوحيد صانعه وقدمه وصفاته وعدله وحكمته فعرف ذلك واعتقده كان موحّدا مؤمنا ولم يكن بذلك مستحقا من الله تعالى ثوابا عليه فإن أنعم الله عليه بالجنة ونعيمها كان ذلك فضلا منه عليه ولو أنه اعتقد قبل ورود الشرع عليه الكفر والضلال لكان كافرا ملحدا ولم يكن مستحقا للعقاب على ذلك فإن عذّبه الله عزوجل بالنار على التأبيد فله ذلك [و] ليس بعقاب وإنما ابتداء منه لإيلام كإيلام البهائم والأطفال في الدنيا من غير استحقاق وذلك عدل من الله تعالى. ووجه هذا القول أن الثواب إنما يكون على الطاعة والطاعة موافقة الأمر والعقاب إنما يكون على المعصية ، [والمعصية] موافقة النهي ومخالفة الأمر. والمسألة مصوّرة في حالة لم يرد فيها أمر الله عزوجل ولا نهي على أحد من خلقه فاستحال الحكم في تلك الحال بالثواب والعقاب على شيء من الأفعال هذا تقدير مذهب شيخنا أبي الحسن الأشعري في هذا الباب وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأبو ثور وأحمد بن حنبل وداود وأهل الظاهر والضرارية جملة أفعال العقلاء في العقل ثلاثة أقسام : واجب ومحظور ومتوسط بينهما فما دل العقل على وجوبه لا يتغير ولا يتبدل كوجوب معرفة الله تعالى وتوحيده وصفاته ووجوب شكره على نعمه. وما دل العقل على حظر لا يتغيّر عن