غاية الخلق الرحمة أم الاختلاف؟
(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) لينفتحوا على آفاق رحمته ، في ما يريده لهم من الالتزام بطاعته التي تحقق لهم مصالحهم المادّية والروحيّة ، والابتعاد عن معصيته التي تبعدهم عما يفسد حياتهم أو يضرّها ، وهذا المعنى يلتقي بمضمون الآية الكريمة التي تحدثت عن غاية الخلق ، وهي : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، وهذا التفسير أولى من إرجاع الفقرة إلى الاختلاف باعتبار ما يوحيه من تنوع في الأفكار والأذواق والأدوار ، التي تقتضيها طبيعة الحياة في حركتها ، مما لا يمثل حالة سلبية في واقع الإنسان ، لأن التنوع يلعب دورا محرضا لتحريك الحياة وتطويرها على الصعد كافة ، وهذا ما ذهب إليه بعض المفسرين ، ولكن الظاهر من سياق الآية أنها تؤكد على مسألة الهدى والضلال في عالم الوحدة والاختلاف ، وتعتبر الاختلاف مظهرا سلبيا لارتكازه على البغي والعدوان كما صرّحت في أكثر من آية ، ولذلك كان الاستثناء بفقرة (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) التي تعتبر الرحمة نعمة تستحقها الفئة التي اختارت الإيمان في ما حاولت أن تمارسه من مسئولية الحرية في الإرادة بما ينسجم مع تشريع الله.
وربما كانت الفقرة التالية دليلا على مثل هذا الجوّ المتحرك في السلوك الإنساني ، القائم على أساس المسؤولية الداخلية والخارجية عن أعماله أمام الله ، (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وإرادته الحاسمة في حكمه النافذ في الأشياء ، في المطيعين والعاصين الذين يمثلون الخط الإيجابي والسلبي في نطاق الاختلاف الإنساني ، (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) في ما يمثله هذا المفهوم من امتلاء الجنة بالناس والجن الذين أطاعوا الله في ما أمر به أو نهى عنه ، ولم يعصوه في ذلك في قليل أو كثير ، كما هو الحال في امتلاء جهنم بالعاصين من الجنة والناس على ما ينص عليه منطوق الآية.
* * *