وهم الأرباب
(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) اللذين أشعر بأن لهما عليّ حق الصحبة في رحلة السجن مما يلزمني بالنصيحة في الفكر ، والموعظة في السلوك ، لأن الإنسان المؤمن ، هو الذي يحسّ بمسؤولية إرشاد الناس إلى خط التوحيد بما يمثله من استقامة في العقيدة والعبادة ، فيعمل على إثارة تفكيرهم ليقتنعوا من موقع الفكر ، ويعملوا من موقع القناعة ، لأن الإيمان لا يرتكز في حياة الإنسان على المشاعر العاطفية ، بل يرتكز على أساس التأمّلات الفكرية ، وهذا ما أراد أن يثير تفكيرهما فيه ، حين طرح عليهما هذا السؤال :
(أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ما الذي يملكه هؤلاء الأرباب الذين تعبدونهم من دون الله من الصفات التي لا بد أن يتميّز الإله بها ، ليستحق العبادة من خلقه ، من قدرة على الخلق وإعطائهم لنعمة الحياة ، ومنحهم لما ييسر لهم سبل الحياة ويمهد لهم سبل الراحة فيها؟! (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) لقد تخيّلتم صورا في أشياء أو أشخاص ، وتوهمتم قوى خفيّة في مخلوقات ، وصنعتم لها من فكركم أسرارا وأوضاعا وصفات لا واقع لها ، بل هي خيال ، لا تملك من الحقيقة إلا وجودها المادي المحدود الذي يتساوى فيه مع كل الموجودات الأخرى ، أما الربوبيّة أو الألوهية وغيرها من صفات الخالق المعبود ، فلا وجود لها في عمق هذه الأشياء ، فهي مجرد أسماء أطلقتموها عليها دون أيّ أساس لذلك في عناصرها الحقيقيّة. ولكن الله هو الحقيقة التي تحتوي الوجود كله ، وتسيطر عليه ، وتقهر كل القوى فيه ، لأنه مخلوق له ، وخاضع في حركته كلها لإرادته ، وهو الذي يحكم كل مسيرته ، فلا حكم لغيره ، ولا سيطرة لسواه.
* * *